سنرى ان كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيتبعثر في سياساته الخارجية ويرتكب أخطاءً جسيمة تمليها نزعته الارتجالية وقراراته الاعتباطية، أو ان كان سيعدّل سياساته الصارمة ويلين أمام التوعّدات والصعوبات، فيتراجع. ذلك ان مغادرة مستشار الأمن القومي جون بولتون منصبه، مُقالاً أو مستقيلاً، سيفسح المجال للرئيس المزاجي ليتدخّل في صلب السياسة الأمنية الأميركية بما لربما يزعزعها ويعرّضها للمخاطر. بغض النظر عن شخصيّة جون بولتون الاستفزازية، لقد كان الرجل درعاً يحمي الرئيس من الوقوع في أخطاء ويضمن التماسك في السياسة الخارجية الأميركية. السياسة الأميركية نحو إيران تقع في مقدّمة السياسات التي اما قد تتبعثر أو قد تتغيّر – عكس موقع السياسة الأميركية نحو روسيا مثلاً – تليها السياسة الأميركية نحو أفغانستان، ثم فنزويلا، ثم كوريا الشمالية. لدى دونالد ترامب أولوية الصفقة دائماً، وهو يُحسن التفاوض والتوصّل اليها عامّة، وإن يكن ذلك في الصفقات المالية وليس بالضرورة في الصفقات الاستراتيجّية الكبرى. الصفقة تتطلّب المرونة والليونة ومساحةً للمناورات، وجون بولتون كان عثرة الأمر الواقع لأنه التزم التماسك والحزم والصرامة بعيداً عن فن إبرام الصفقات. ثم ان أمام دونالد ترامب استحقاقات انتخابية جعلته أكثر تمسّكاً برفض الانجرار الى الحروب مهما بلغ استدراجه اليها. الرئيس الأميركي وجد نفسه أمام استفزاز إيراني نووي سيدفعه اما الى الاضطرار لتوجيه ضربة عسكرية قد تتوسّع الى مواجهة عسكرية مع إيران، أو سيدفع به الى الانصياع على نسق سلفه الرئيس باراك أوباما الى تلبية مطالب إيران. ارتأى دونالد ترامب، حتى الآن، ان يتبنّى الرفض المتماسك لاستدراجه الى خيار المواجهة العسكرية دون أن ينصاع ولذلك اختار فتح الباب أمام الحوار الديبلوماسي مع الإبقاء على استراتيجية فرض العقوبات الخانقة على إيران وأذرعتها بما في ذلك "حزب الله" في لبنان و"الحشد الشعبي" في العراق.

الرئيس الأميركي وجد نفسه أمام احتمال انجراره الى مواجهة عسكرية لا يريدها مع إيران أساساً، إضافة الى الاعتبارات الانتخابية، فقرّر ان الحزم القاطع ليس في مصلحته الانتخابية ولا هو مفيد في فنون الصفقة. القيادة الإيرانية تعمّدت أن تدب الهلع في قلوب الأوروبيين بتهديداتها بالانسحاب من الاتفاقية النووية واستئناف النشاطات النووية وذلك لابتزازهم ليس فقط من أجل إيجاد وسيلة ما للالتفاف على العقوبات الأميركية ضد إيران، وإنما أيضاً من أجل الضغط على دونالد ترامب ليغيّر سياساته نحوها. الى حدٍّ ما، يجوز القول ان السياسة الإيرانية هذه تنجح نسبيّاً، إذا تم النّظر اليها من زاوية اختيار دونالد ترامب زيادة الترغيب بالصفقة بدلاً من تكثيف الحزم والضغوط بما يستدعي الضربة. إنما هذا لا ينفي أن العقوبات على إيران تبقى سياسة أميركيّة ثابتة ودائمة تمنع طهران من تصدير نفطها وتخنق النظام في إيران، بغضّ النظر عمّا قد يتم من لقاءات ديبلوماسية بين الرئيس دونلد ترامب ونظيره الإيراني حسن روحاني، وعن تلك الآلية التي يعمل عليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتنفيس العقوبات النفطية.

يكثر الكلام عن فكرة ماكرون إنشاء آلية مقايضة Barter system في عملية انقاذ bail out للاقتصاد الإيراني بقيمة 15 مليار دولار لإقناع طهران بعدم الخروج من الاتفاقية النووية التي أبرمتها مع مجموعة دول 5+1، أي الولايات المتحدة في عهد باراك أوباما، والصين وروسيا، وبريطانيا، وفرنسا، إضافة الى المانيا. ماكرون يريد إحياء هذه المجموعة وإحياء دورها في المسألة الإيرانية بدلاً من استمرار فرض الولايات المتحدة إملاءاتها بدءاً بقرار دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاقية وفرض عقوبات شاملة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

مصدر أميركي وثيق الاطّلاع أكّد أن واشنطن أوضحت لماكرون ان أفكاره مرفوضة وأن الولايات المتحدة "ليست في حاجة له ليبني جسراً" بينها وبين إيران. وقال المصدر ان فكرة آلية المقايضة "باتت ميتة" تماماً لدى واشنطن.

بحسب هذا المصدر ان العقوبات مستمرة و"لن يتم تخفيفها من أجل الجلوس" مع القيادة الإيرانية، إشارة الى الحديث عن استعدادات نحو لقاء بين الرئيسين ترامب وروحاني على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك وتواجد الرئيسين يوميّ 24 و25 أيلول (سبتمبر) معاً في الأمم المتحدة. هذه ليست المرّة الأولى التي يُهيّمن خبر لقاء الرئيسين على أعمال الجمعية العامة علماً ان المحاولة الأولى فشلت عام 2017.

"سنُقدّم فرصة إجراء حوار"، قال المصدر "لكننا لن نمحو العقوبات كي نجري محادثات". هذا الموقف يتعارض بصورة قاطعة مع المواقف التي عبّر عنها الرئيس الإيراني والتي يكرّر فيها إصرار طهران على رفع العقوبات كمدخلٍ لإجراء المحادثات. والسؤال هو، كيف ستضيق الفجوة بين الموقفين بما يسمح باللقاء سيما إذا كانت المبادرة الأوروبية التي يحملها ماكرون "ميتة" حقاً، سيما وان واشنطن تسعى بقوة الى توسيع حلقة الدول التي تضيّق العقوبات من أجل زيادة الضغوط وتشديد العقوبات على إيران؟

الرئيس الأميركي يتحدّث بلغة الاستعداد للجلوس مع نظيره الإيراني، لكنه دائماً يقنّن استعداد القيادة الإيرانية للجلوس معه في خانة الاضطرار رضوخاً لسياسة العقوبات التي وضعت اقتصاد إيران في "وضع عاطل وسيء جداً"، ثم يمد جرعة الثقة اليها بقوله ان "في وسعهم إصلاح الوضع السيّء بسهولة" و"اعتقد انّهم يودّون إبرام صفقة"، تعيد إيران الى ما كانت عليه من دولة "غنيّة" وثريّة.

واشنطن ستنشغل الأسبوع المقبل بإعلان الرئيس عن الشخصية التي ستتولى منصب مستشار الأمن القومي والطاقم الذي سيرافقها علماً بأن مغادرة جون بولتون للمنصب رافقتها مغادرة عدد كبير من فريقه في مجلس الأمن القومي. اجتماعات مهمّة ستُعقد يوم الأربعاء المقبل، حسب المصادر، وذلك للنظر في خطوات السياسة الأميركية نحو إيران بما في ذلك إعلان خطوات تشديد العقوبات والمزيد منها.

السياسة الأساسية الرئيسية نحو إيران لن تتغيّر برحيل بولتون أو بوصول خلفه الى المنصب. اللقاء بين ترامب وروحاني، إذا تمّ، "لن يكون طويلاً أو موسّعاً" Substantial، قالت المصادر. أضافت ان ما قد يفعله دونالد ترامب أثناء الاجتماع القصير هو أن يقدّم الى روحاني رزمة مطالب من طهران لتغيير سلوكها وسياساتها ليأخذها معه ويعود اليه بالرد. عناوين هذه المطالب معروفة وهي: إعادة التفاوض على الاتفاقية النووية لتحسينها، وقف تصنيع واختبار الصواريخ الباليستية، والكف عن دعم طهران لما تعتبره واشنطن تنظيمات إرهابية مثل "حماس" و"حزب الله"، الى جانب الجيوش غير النظامية الأخرى التابعة لطهران مثل "الحشد الشعبي" في العراق.

دونالد ترامب لم يسد الباب أمام احتمال تخفيف العقوبات بصورة ما على إيران. وهذا تطوّر مهم، بالرغم من غموضه ومن تأكيد أركان في إدارته بأن لا تخفيف للعقوبات. فهو أجاب "لنرى" لدى سؤاله ان كان مستعدّاً لتخفيف العقوبات على إيران دون أن يوضّح ان كان في باله تخفيف العقوبات بعدما يجلس مع روحاني ويضع أمامه شروط تخفيفها، أو ان كان التخفيف سيأتي قبل اللقاء كترغيب لإيران لبدء الحوار. سنرى.

الواضح أن نبرة النظام في طهران لا تبدو أبداً في وارد الرضوخ للمطالب الأميركية، النووية والباليستية والإقليمية. إقليمياً، ان أذرعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومرشدها علي خامنئي وقيادات "الحرس الثوري" تتأهب وتتوعّد وتعلن الولاء القاطع للخامنئي من عواصم بلادها. الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله رفع السقف في خطابٍ ألقاه هذا الأسبوع بصورة لا مثيل لها إذ أعلن في اليوم العاشر من محرم وخلال إحياء مراسم عاشوراء ولاءه القاطع لإيران والمرشد خامنئي قائلاً: "يا سيدنا وإمامنا وحسيننا نقول لك كما قال أصحاب الحسين للحسين ليلة العاشر من المحرم يا سيدنا، يا إمامنا، يا قائدنا، لو ان نعلم أنّ نُقتل ثم نُحرق ثم نُنشر في الهواء ثم نُحيا ثم نُقتل ثم نُنشر في الهواء يُفعل بنا ذلك ألف مرة، يفعل بنا الأميركيون والصهانية ألف مرة، ما تركناك يا ابن الحسين". قال نصرالله أكثر من مرة ان ولاءه هو لإيران والدفاع عن إيران وان "محور المقاومة" سيُشارك في أي حرب على إيران ليُشعل المنطقة ويُدمّر دولها.

لا رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، ولا رئيس البرلمان نبيه بري، ولا رئيس الحكومة سعد الحريري احتج على اقتناص حسن نصرالله قرار الحرب والسلم للبنان وتجييره لإيران، أو على إعلان "حزب الله" ولاءه الأول والقاطع لإيران وليس للبنان، أو على تهديد نصرالله للقطاع المصرفي اللبناني لخضوعه لقواعد العقوبات الأميركية عليه. كل ذلك حدث فيما كان ديفيد شنكر يقوم بأول زيارة له الى لبنان بصفته مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى وسط خطاب ناري لحسن نصرالله وصمت رهيب لأركان الدولة.

المصادر المطّلعة على ما ذهب به شنكر الى لبنان أوضحت التالي: التأكيد على أن مقولة المسؤولين اللبنانيين ان ما يفعله "حزب الله" خارج لبنان لا يخص لبنان باتت مقولة مرفوضة و"لم تعد أسلوباً مقبولاً" في معالجة الأمر. وعليه، ان الذين "يؤمّنون الغطاء" لـ"حزب الله" يزيدون الوضع "سوءاً" و"يعرّضون كامل البلاد للخطر" لأن لبنان لم يعد محيّداً عن الأزمات الإقليمية.

وزير الخارجية مايك بومبيو أعطى تعليمات "خلع القفازات" gloves off approach من خلال "زيادة الضغوط مباشرة على حزب الله وكذلك على الذين يمكّنونه enabel، في المستقبل القريب" قال المصدر. أضاف "اننا لا نسمّي بالأسماء الآن. We are not naming names إنما لا خيار آخر أمامنا مستقبلاً، إذا لم تتغيّر الأمور، وبقيت على ما هي عليه حالياً".

هذه هي الرسالة التي أبلغها شنكر الى المسؤولين اللبنانيين بلغة "الزمالة" Collegial "إنما بحزم"، قال المصدر مؤكّداً ان "نافذة الفرصة لاصلاح المواقف ما زالت مفتوحة، لكنها بدأت تُغلّق. وعلى كل ما يعنيه الأمر أن يعرف جيداً أننا في غاية الجدّية".

ما يتحدّث عنه المسؤول الأميركي هو العقوبات على المزيد من الكيانات وكذلك على شبكة أوسع من الأفراد. قال ان ما حمله شنكر الى بيروت ليس ملف الحدود بينه وبين إسرائيل فهو "ليس مبعوث الحدود"، وهذه ليست مهمته. ما حمله هو التركيز على خطورة إجراءات "حزب الله" بما فيها "قدرات وانتاج وتصنيع الصواريخ الدقيقة في لبنان". قال لقد تمّ "إنذار" لبنان بأنه "ما لم يتخذ إجراءات ضغوط على حزب الله، فإن المغامرة هي في انفجار الأمور داخل لبنان، كما يحدث في العراق، كما حدث في سوريا". وطالما ان "حزب الله" ينفّذ أوامر قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني الذي يتولى تنفيذ السياسة الإيرانية الإقليمية وإدارة الجيوش غير النظامية اللبنانية والعراقية التابعة لأوامر مرشد الجمهورية وفي طليعتها "حزب الله" في لبنان و"الحشد الشعبي" في العراق، فإن معادلة المواجهة ما زالت موجودة على مختلف الجبهات.