ما يجري اليوم في ومع قطاع غزة وفي السلطة الفلسطينية يدفعنا إلى استحضار ما جرى قُبَيل خروج جيش الاحتلال الإسرائيلي من وسط قطاع غزة خريف 2005، وانقلاب حركة حماس 2007. مسلسل مُحكم الإتقان لتدمير المشروع الوطني وفصل غزة عن الضفة، بل وإفشال حل الدولتين، مخطط تزعم الطبقة السياسية أنها تجهله أو لم تعرف به إلا مؤخرا، أو أنها بريئة منه؛ فإن كانت صادقة في عدم معرفتها بمخطط الانقسام والفصل بين غزة والضفة فهذا يُوسِمها بالجهل، وإن كانت تعرف وتسكت فهذا يُوسِمها بالتواطؤ.

خرج جيش الاحتلال من داخل القطاع تنفيذا لخطة الفصل الأحادي، في وقت كانت المواجهات المسلحة مع الاحتلال في قطاع غزة متواصلة، مصحوبة مع حالة فوضى وصدامات داخلية شبه يومية بين السلطة وحركة فتح من جانب، وحركة حماس من جانب آخر.. ولم يستطع الوفد الأمني المصري المتواجد آنذاك فعل شيء حيالها. أيضا كانت السلطة في مرحلة تراجع في شعبيتها وتعاني من الحصار: حصار الرئيس أبو عمار ثم اغتياله، وحصار مالي وتخفيض رواتب الموظفين، بما فيها رواتب الأجهزة الأمنية الخ.

عندما خرج جيش الاحتلال آنذاك هللت فصائل المقاومة، معتبرة أن إسرائيل هربت من غزة وانهزمت أمام المقاومة..المشهد نفسه تكرر عندما قامت حماس بانقلابها سنة 2007، حيث كانت السلطة الوطنية وأجهزتها الأمنية في حالة ضعف وتفكُك أدت إلى سرعة انهيارها وهزيمتها أمام مسلحي حركة حماس، وهو ما أثار آنذاك وإلى اليوم شكوكا حول تواطؤ بعض مكونات السلطة، بل حتى من داخل حركة فتح، في واقعة الانقلاب وفصل غزة عن الضفة. آنذاك أيضا انكشف دور قطر، عرابة الانقسام والمكَلفة منذ 2004 بتدجين حماس وجرها إلى مخطط فصل غزة وصيرورتها دويلة في القطاع.

ما أشبه اليوم بالبارحة، إذ يتم تمرير مرحلة جديدة من مخطط الفصل تحت عنوان الهدنة، وكأنها إنجازات للمقاومة ولـ(مسيرات العودة) التي أجبرت إسرائيل وواشنطن ودول أخرى على أن تخفف الحصار والمعاناة وتُوقِف عدوانها على قطاع غزة! وكأن حركة حماس وفصائل المقاومة الموالية لها وجِدت فقط لتأسيس كيان سياسي في القطاع وحماية السلطة القائمة فيه وتوفير الحد الأدنى من المتطلبات المعيشية من رواتب، تأتي عبر إسرائيل وبموافقتها، ووعود لم تُحقق بشأن تحسين الكهرباء ومساحة الصيد البحري وتحسين العمل على المعابر !!! وكما جرى في المرحلة الأولى، تكفلت دولة قطر بكل التبعات المالية لضمان الهدنة وضمان استمرارية حماس في السلطة وإنهاء المقاومة، كما تكفلت مصر بالشق السياسي والأمني.

صحيح، في المرحلة الأولى من المخطط، وعندما خرج جيش الاحتلال من قطاع غزة، كانت مواجهات مسلحة مع جيش الاحتلال داخل القطاع وعبر الحدود، وأيضا في مرحلته الحالية، حيث تم توقيع اتفاقية هدنة – يسمونها تفاهمات لإبعاد الحرج وشبهة التواطؤ -وسط عنف مبرمج مصاحب لما تسمى مسيرات العودة التي تتأرجح قوة وضعفا مع مرور الأيام، حسب الأموال التي يتم إدخالها عن طريق قطر.

والحقيقة أن جيش الاحتلال لم يخرج من القطاع عام 2005 ولم يوقع اتفاقية الهدنة 2019، لأنه انهزم أمام المقاومة، بل لأهداف إستراتيجية بعيدة المدى، لم يتم الإفصاح عنها في حينه حتى للرأي العام الإسرائيلي، أهداف تتحقق اليوم، حيث انكشف المستور على لسان الإسرائيليين أنفسهم باعترافهم بأن خطة شارون للانسحاب أحادي الجانب من داخل غزة كانت من أهم الانجازات الإستراتيجية لإسرائيل. وقد اعترف نتنياهو بأنه يسمح بدخول الأموال إلى قطاع غزة، سواء القطرية أو غيرها، لأنها تعزز الانقسام الفلسطيني. كما أن القيادات العليا في حركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين، والبعض في السلطة الفلسطينية وقطر ومصر والأردن ودول أخرى، يعرفون حقيقة ما يجري ومشاركون في مهزلة حوارات المصالحة.

نعم، إنه مخطط متواصل شاركت فيه عدة أطراف، ومؤشرات نجاحه في تعزيز الانقسام وضرب المشروع الوطني كثيرة ومنها:

1- توقف حوارات المصالحة، بل وزيادة حدة الشقاق والاتهامات المتبادلة.

2- سحب حرس الرئاسة من معبر رفح وعودة أجهزة حماس لإدارة المعبر مباشرة بتنسيق مع المصريين، وطرد موظفي السلطة من معبر كرم أبو سالم وعودة مرابطة أجهزة حماس على معبر بيت حانون –ايرز- لتمارس مهامها الأمنية والإدارية.

3- الإجراءات المتدرجة التي اتخذتها السلطة تجاه قطاع غزة بالنسبة للرواتب وأشكال التمويل الأخرى، وهي إجراءات أدت إلى تعزيز الانقسام والفصل.

4- تضييق مالي من إسرائيل وأمريكا ودول عربية على السلطة نفسها، ليصبح حالها حال سلطة حماس في القطاع، لينشغل الجميع بهموم الحياة اليومية فقط.

5- تشكيل حكومة جديدة في الضفة برئاسة محمد أشتيه، لا تعترف بها حركة حماس، ورفضت فصائل من منظمة التحرير نفسها المشاركة فيها.

6- تشكيل حركة حماس حكومة في غزة تمارس كل الصلاحيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية للحكومات.

7- توظيف الانقسام ووجود سلطة حماس لخلق أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة في قطاع غزة، جعلت أهالي القطاع يفقدون الثقة بكل شيء، ويستميتون من أجل الهجرة خارج الوطن.

8- تجاوز بروتوكول باريس الاقتصادي، حيث بات جزء كبير من تجارة غزة يجري مع مصر مباشرة.

9- تباعد الشقة، اجتماعيا وثقافيا ونفسيا، ما بين الفلسطينيين في مختلف أمكان تواجدهم، وخصوصا ما بين الضفة وغزة.

10- تعامل عديد من الدول مع حركة حماس باعتبارها تمثل الشعب الفلسطيني في غزة.

11- تراجع وضعف أي مقاومات وطنية رسمية أو شعبية لسلطة حماس في غزة، سواء كانت من تنظيم حركة فتح أو من الفصائل الأخرى المنتمية إلى منظمة التحرير أو غير المنتمية.

12- ضعف المقاومة حتى الشعبية في الضفة وغزة ضد الاحتلال، باستثناء عمليات فردية متباعدة، ومسيرات على حدود غزة مبرمجة وموجهة.

13-تآكل الأحزاب والحركات وتراجع شعبيتها، سواء على مستوى نهجها النضالي المقاوم أو على مستوى إيديولوجيتها ومنطلقاتها الأولى، بحيث يمكن القول إن عدد منتسبيها اليوم لا يزيد كثيرا على عدد المستفيدين من رواتبها ومعوناتها المالية والعينية.

14- تواصل الدور القطري والمصري في الإشراف، كل حسب المهمة المكلف بها، على تخريج مخطط الفصل وضمان استمراره، وهو دور وظيفي يبدو أنه انتهى بالنسبة لقطر.

وإذا وضعنا كل ذلك في سياق ما يتسرب من معلومات عما تسمى صفقة القرن، تنتابنا شكوك بوجود تواطؤ بنسب مختلفة من كل الأطراف، سواء كان تواطؤ العاجز والفاشل أو تواطؤ المشارك والمتآمر.

Ibrahemibrach1@gmail.com