الحلقة الأولى

تقديم

توفرت جميع الشروط ليمضي الشعب الجزائري، الحراكي، صوب العصيان المدني، يدعم به دينامية الشارع المتوهجة على مدى شهور؛ حتى أشعلت – يا لغرابة الصدف – غابات الجزائر، وما اشتعل ضمير الجنرالات ليهبوا صوب جزائر المستقبل، مسقطين جدران العسكرية المستبدة التي اختطفت الثورة والدولة والثروة؛ كما فصلتُ في مقالات سابقة.

دولة العصيان العسكري، أولا

لعل آخر معارك فرنسا في جزائر الثورة –وقد اقتنعت الكولونيالية بالهزيمة الميدانية، وحتمية الخروج من البلد- كانت، ولا تزال، هي الأشرس والأخبث بالنسبة إلى المنطقة المغاربية كلها، وليس الجزائر فقط.

إنها معركة كسر عظام الشرعية الثورية التي مثلها، عن جدارة واستحقاق، القادة التاريخيون للثورة الجزائرية، وكل حركات التحرير المغاربية الداعمة، وتهيئة ظروف ميلاد شرعية كاذبة تسلَّم لها، وليس لغيرها، دولة الجزائر "المستقلة".

بهذا يكون الاستعمار الفرنسي قد ضمن ألا يكون لاستقلال الجزائر مدلول حقيقي، يؤسس للدولة المدنية ضمن منطقة مغاربية، مطالبة بالانتقال، بسرعة، من "الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، على حد تعبير المرحوم محمد الخامس.

لقد عكس مؤتمر الصومام، والكثير من الكتابات التاريخية التحليلية للثورة، رغبة أغلب القادة التاريخيين في تأسيس دولة مدنية، تكون أولى لبناتها حل جبهة التحرير العسكرية، وفتح المجال أما م التعددية السياسية، المنشئة والمكرسة للديمقراطية.

لقد أدرك الفرنسيون أن هذا التوجه المدني الديمقراطي سيجُبُّ بسرعة مائة وثلاثين عاما من البناء الاستعماري لجزائر فرنسية المربط والمنزع. كما أدركوا أن السماح بتأسيس هذه الجزائر الديمقراطية، سيلحق بهم خسائر سياسية واقتصادية في المنطقة المغاربية كلها، وحتى الإفريقية جنوب الصحراء.

لقد كان جيش الحدود، بقيادة "بوخروبة"، هواري بومدين لاحقا، هو الطابور الخامس الذي استكمل معارك الجيش الفرنسي ضد ثورة الشعب الجزائري ؛ وأقوى الأدلة على هذا الطرح دليلان:

1. تصفيته لعدد من القادة التاريخيين، وقد ورد ذكرهم في مقالات سابقة.

2. احتضانه لعدد كبير من الضباط الجزائريين، والجنود، الذين جندتهم فرنسا ضد إخوانهم، في عز الثورة؛ ومن هؤلاء من ظل يفاخر بأنه شارك في معركة الجزائر العاصمة، إلى جانب جيش فرنسا (الجنرال العماري).

تعرف ساكنة وجدة والجهة الشرقية كم صال هذا الجيش وجال بين ظهرانيهم، شاكي السلاح حتى في المقاهي والحانات؛ ويعرفون أيضا أنه لم يطلق رصاصة واحدة ضد الجيش الفرنسي، حتى وهو يهاجم بطيرانه وجدة المستقلة.

يتذكر سكان حي "لازاري" بهذه المدينة الأبية، جيدا، شجاعة رجل القوات المساعدة المغربي، الذي انزوى خلف شجرة مشهرا سلاحه –رباعية- حينما سمع دوي الطائرة الفرنسية، وهي تقصف حي كلوش، حيث كان الإخوة الجزائريون المهاجرون يحوزون نصيبهم من المواد الغذائية.

يومها لم يظهر أثر لجيش الحدود، على الرغم من ثكناته القريبة من مكان الهجوم.

بهذا يتكرر خذلان الأمير عبد القادر الجزائري للجيش المغربي في معركة إسلي.

ويعرف سكان "واوْلوتْ" ببركان كل أماكن الآبار التي كان بوخروبة يلقي فيها بجثث ضحاياه من الجزائريين ؛ ولو استُخرجت العظام اليوم، لما وجد ضمنها بَنانٌ واحد لعسكري فرنسي.

ويتذكر سكان "المَقْسم" بوجدة هيكل السيارة الذي انكشف أثناء عمليات الحفر في إحدى التجزئات.. كان المنظر "هيشكوكيا"، بقايا هيكلين عظميين، طُمرا داخل سيارتهما على عهد الكولونيل الدموي بوخروبة.

لم ينتظر هؤلاء الضباط - "كابرانات فرنسا" كما يكرر دائما المعارض الجزائري الشرس والمفوه، العربي زيتوت- دخول جيش الحدود من وجدة، لينضموا إليه، بل منهم من تظاهر، إبان احتدام الثورة، بالفرار من صفوف الجيش الفرنسي والانضمام إلى الثوار في المدن والجبال.

لقد كان هذا يتم وفق خطط فرنسية مخابراتية مدروسة؛ وهذا لا ينفي كون بعض الفارين صادقي النية.

دولة بوخروبة لم تسقط بعد

لأنها دولة قتلت السياسة، وقتلت الفكر المدني وكل الروافد التي ترفده؛ حتى غدا الجنرال الواحد أفضل مكانة، وتقديرا من كل رؤساء الجامعات وعمداء الكليات والأساتذة.

أماتت حتى إمكانية افتراض أن تكون الدولة للمدنيين؛ والحال أنها كذلك في كل الدساتير – بما فيها دستور الجزائر - والقوانين والأعراف الأممية.

لن أنسى أبدا أحد المعلقين على مقال لي، وهو يؤكد أن "الجزائر دولة عسكرية، ولن يفهم هذا غير الجزائريين".

نعم إلى هذا الحد وصل الأمر.

دولة كبرى تتحول إلى مجرد شعيرات في إبط الجنرال، الكريه الرائحة. وهو جنرال أمي، أغناه الدعم الخارجي القديم عن ولوج الكليات العسكرية والمدنية.

أقول هذا لمن لم يقتنع بعد بكون دولة الجزائر – وليس شعبها الأبي - هبة فرنسا لعسكرها الجزائري.

إنها دولة عسكرية شيمة قادتها الغدر حتى يبعضهم البعض؛ وهذا ما يحصل اليوم، حيث يستقبل سجن الحراش بعض أقطاب العصابة، من العسكريين والمدنيين، الذين أطاحت بهم العصابة إياها، عبر رقصات ذئبية، على وقع أنغام تعزف خارج الجزائر.

إن بعض الجهات العربية والأجنبية تتقطع أنفاسها، وتتوالى حبكاتها المسرحية، حتى لا تسقط دولة الاستبداد الداخلي والانصياع الخارجي.

لقد صنعت هذه الجهات دولة العصيان العسكري، التي استهلت وجودها بإسقاط الشرعية الثورية، وحلم الشعب الجزائري بدولة مدنية، منسجمة مع محيطها المغاربي المدني.

لن يُسقط هذا العصيان العسكري، المفصل على المقاس، غير عصيان مدني سلمي يدعم الحراك ولا يحل محله.

عصيان مدني تدرك كل شعوب العالم اليوم أن الشعب الجزائري دفع إليه دفعا، من غِرٍّ سياسي على الرغم من شيخوخته، وجنرال على الرغم من أميته، يتحكم في كل الدولة اليوم، على الرغم من جهله بأبسط قواعد انبنائها، ومصادر السلطة فيها.

أخشى ما أخشاه أن ينتظر الشعب الجزائري، اليوم، ظهور عسكريين مخلصين.

إذا اجتمعت آراء الناس على هذا، فسرعان ما سيتم إيجاد المخلصين، بالانقلاب على قايد صالح وإيداعه سجن الحراش بدوره، أو حتى تسليمه لبَعاعِ الحراك، كما حصل مع العقيد القذافي.

في هذه أختلف مع الأستاذ العربي زيتوت، الذي يُفهم من بعض كلامه أن هناك من يخطط لانقلاب ما في الجزائر؛ من الضباط طبعا.

لا يا أستاذ العربي، الشعب الجزائري هو من سيخلص دولته من أيادي العصابة.

مدنيا ومعه شعوب العالم.

"يسقط يسقط حكم العسكر" أنى لاح وكيفما تجلى.

 

رمضان مصباح الإدريسي


 

يتبع