بعد كتابه "صحيح البخاري، نهاية أسطورة"، خرج السيد رشيد أيلال بخرجة إعلامية شكّك من خلالها في الوجود التاريخي للخليفتين أبي بكر وعمر بن الخطاب، محتجا في ذلك بالغياب الكامل لهذين الاسمين بالمصادر المتصلة بالتاريخ المبكر للإسلام، وبالتالي، فنحن أمام شخصيتين خياليتين، لا واقعيتين. غاب الاسمان- حسب أيلال- من المصادر العربية، كما بالمصادر غير الإسلامية المعاصرة لبدايات الإسلام، مثل المصادر البيزنطية والفارسية، وكل ما في الأمر أن "السردية الإسلامية" التي واكبت الحكم العباسي، نسجت تلك الصورة الخيالية عن تينك الشخصيتين، دفاعا عن المشروعية للعباسيين.

لا جرم في أن مثل هذا الكلام الذي أقنع السيد أيلال نفسه به بغية "التفكير بصوت عال" و"إلقاء الحجر في البركة الراكدة"، ينطوي على خطورة كبيرة. ذلك بأنه - شئنا أم أبينا- قمين باستفزاز الاقتناعات التي تكونت في ذاكرة المسلمين ومخيالهم عن ذينك الخليفتين.

وقبل التعقيب على ما ذهب إليه السيد أيلال، وبعيدا عن لغة الإقصاء والشخصنة ومصادرة الفكر، نبسط بعض الملاحظات التي نحسبها مؤطرة لكلامه.

- يبدو أن السيد أيلال قد اختار الدفع بما اعتبره "تفكيرا بصوت عال" إلى الدرجات القصوى، لما ضمّن عنوان كتابه السابق عن البخاري عبارة "نهاية أسطورة". يذكّر هذا العنوان بعناوين مشابهة لكتب أخرى، مثل كتاب الباحث المصري محمود إسماعيل "نهاية أسطورة، نظريات ابن خلدون مقتبسة من رسائل إخوان الصفا"، الذي اعتبر ابن خلدون في مقدمته مجرد سارق و ساط على أفكار إخوان الصفا، غير أن صداه لم يتجاوز ما بعيد إصداره. ينطوي خطاب "النهائيات" على منهجية غير علمية، تنطلق من مواقف قبْلية جاهزة تقوم على إلغاء عجلة التاريخ التي تتأسس على التراكم، وهو خطاب مؤدلج لأنه يعتبر نفسه حاسما ونهائيا، ولا يقوم على تنسيب المواقف، خاصة في حقل الفكر الذي هو بالضرورة حقل للتراكم. إنه خطاب مثالي يروم تصفية الحساب، وليس التفكيك وإعادة البناء. ولعل الأجدى أن يتم الحديث في مجال الفكر عن "المراجعات" أو "التأملات "....

وفي خرجة السيد أيلال الأخيرة اختار – بعد إعمال الشك- أن ينفي كل وجود تاريخي للخليفتين أبي بكر وعمر بن الخطاب، لا لشيء سوى لأن اسمهما يغيبان من المصادر الإسلامية أم غير الإسلامية المعاصرة. ومثل هذه المواقف الحاسمة والخلاصات "النهائية " ممّا يمكن أن ندرجها بدورها في باب خطاب "النهائيات" لأن عنصر التنسيب غائب بها.

- اعتبار الوثيقة المادية هي الوحيدة الكفيلة بالحديث عن الوجود التاريخي منهجية تمّ تجاوزها في الكتابة التاريخية، وقد ارتبطت بالمدرسة المعروفة ب" الوثائقية" أو " الوضعانية" التي سادت في القرن 19 م. وقد مثل هذه المدرسة بفرنسا "فكتور لونغلوا" و"شارل سينيوبوس" المتأثران بالمدرسة الألمانية كما سطّر لها" رانكه"، وقد لخصا هذا الاتجاه في الكتابة التاريخية بقولهما: "يكتب التاريخ انطلاقا من الوثائق....وكل فعل أو فكر لم يخلف أثرا بصفة مباشرة أم غير مباشرة يضيع تاريخيا، وكأنه لم يوجد نهائيا، ودون وثائق، تظل حقب طويلة من الماضي مجهولة...لا تاريخ بدون وثائق..."

Langlois (Ch) et Seignobos (Ch),Introduction aux études Historiques , Hachette,Paris, 1898, p 29.

وكان لمدرسة الحوليات مع جيل" لوسيان فيفر" و"مارك بلوخ" و"فرناند بروديل" مآخذات كثيرة على المدرسة الوثائقية باعتبارها مهووسة بالوثيقة بمفهومها الضيق، ودعت إلى تمثلات جديدة للتاريخ توسع من مفهوم الوثيقة، وإلى التناهج والانفتاح على باقي العلوم الاجتماعية والإنسانية...وعليه يمكن للمشتغل بالتاريخ أن يجد ضالته، ليس فقط في الوثيقة المكتوبة بالمصادر، بل وبمصادر أخرى قد تكون نقشا أو عملة أو فلكلورا أو تمثلات اجتماعية وذهنية....

- من المتعارف عليه لدى المهتمين بتاريخ الإسلام المبكر أن مصادره الأولى ظلت في الغالب شفوية، عاكسة بذلك مجتمعا حمّالا لثقافة شفوية استجابت للمعطيات الطبيعية السائدة، ثم إن طرق أخذ العلم عند المسلمين خضعت في معظمها للمصادر المعتمدة على الرواية الشفوية من سماع وقراءة وإجازة ووصية…ممّا لم يفسح المجال أكثر للثقافة المكتوبة التي ظلت بسيطة إلى عصر التدوين مع العباسيين. ولعل غياب مصدر مكتوب عن شخصيات أو أحداث، وظهورها في مراحل لاحقة، لا يعني غيابا تاريخيا كاملا لها. ويبدو أن الخلل الكامن في طريقة فهم السيد أيلال للتاريخ، أنها سجينة لمدى توافر النسخة الأم أو المصدر الأصلي، وهي طريقة مشوهة لما يجب أن تكون عليه الكتابة التاريخية. فالمشتغل على القرون الهجرية الأولى من تاريخ المغرب- مثلا-، يعلم أن أقدم ما وصلنا من مصادر تلك الفترة، لا يرقى في معظم أجناسه إلى ما قبل القرن الرابع الهجري، فأقدم مصدر وصل إلينا عن دخول العرب المسلمين للمغرب هو كتاب "فتوح إفريقية والأندلس" لعبد الرحمان ابن عبد الحكم المصري المتوفى سنة 257ه، وأقدم فهرسة وصلت إلينا هي فهرسة القاضي عياض المتوفى سنة 544ه، وأقدم ما وصل إلينا عما يتصل بكتب النوازل هي للقاضي ابن دبوس الزناتي المتوفى سنة 511ه وأقدم ما وصلنا عن كتب المناقب قد يكون كتاب المستفاد في مناقب العباد للتميمي المتوفى سنة 604ه... فنحن أمام ظاهرة لتأخر التدوين التاريخي، ما جعل الفرنسي "فليكس غوتييه" يضيف لكتابه عن شمال إفريقيا خلال القرون الهجرية الأولى صفة" القرون الغامضة"، وهو تعبير عن ضعف المادة المصدرية التي وصلت إلينا عنها، بغض النظر عن المقاصد الإيديولوجية لاختياره لذلك النعت. فهل غياب المصادر التاريخية عن القرون الإسلامية الأولى، معناه نفي لتاريخيتها؟

- الظاهر أن السيد أيلال اكتفى في خرجته بزيارة بعض المواقع الإلكترونية التي ترد بها أفكار تصب فيما ذهب إليه، وقد سبقه إليها مستشرقون جعلوا عمر بن الخطاب مسيحيا والإسلام مجرد هرطقة مسيحية، كما أن بعض الغربيين المعاصرين ما انفكوا في الترويج لمثل هذه الأفكار من طينة " كارل هاينز أوليش" الذي أشرف على إعداد كتاب جماعي عن "البدايات المعتمة" للإسلام المبكر، ينفي فيه أي وجود تاريخي للخلفاء الراشدين ويعدّهم إفرازا من نسيج الخيال. وقد طالعنا مؤخرا التونسي محمد آل عيسى في كتابه " تاريخ الإسلام المبكر" بالأفكار ذاتها. فهل نحن أمام "استشراق جديد"؟، علما بأن رواد الاستشراق الكلاسيكي من أمثال "لاووست" كرسوا حياتهم للبحث المضني، ولم يكتفوا بالتقاط الأفكار من هنا وهناك.

- إن مثل الأفكار التي وردت بخرجة السيد أيلال تقتضي الاستقصاء العلمي للوثائق الغميسة، والتسلح بأدوات البحث العلمي القائم على اختمار الأفكار. فما بين صدور كتاب "صحيح البخاري، نهاية أسطورة " وهذه الخرجة غير المحسوبة، وقت قصير قد لا يسمح باختمار الأفكار وأصالتها. ولا يمكن- بأي حال من الأحوال – الظفر بالفكر الأصيل بالبقاء وراء شاشة الحاسوب والانتقال بين المواقع الإلكترونية، بدعوى أن المعلومة أصبحت متاحة للجميع، بمجرد نقرات على الحاسوب. إن البحث الرصين يتطلب ردحا من الزمن في التنقيب والقراءة الفاحصة والمتأنية للمصادر والاستئناس باللغات وغيرها من العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولا محيد للبحث الرصين عن الطرق التقليدية في التكون والتحصيل.

وعطفا على هذه الملاحظات الأولية، نبسط بعض التعقيبات على ما جاء في خرجة السيد أيلال من خلال صياغة الاستفهامين التاليين:

- هل تمّت القراءة المتأنية للمصادر التاريخية البيزنطية؟ يأتي على رأسها كتاب "تاريخ هرقل" لسيبيوس، وهو أسقف أرميني عاش في القرن السابع الميلادي، والكتاب مترجم إلى عدة لغات، ولا نعلم بوجود ترجمة عربية له. بدأ كتابه بتدوين الأحداث انطلاقا من سنة 682م، وقد استفاد في مروياته من روايات الأسرى الأرمن الذين أطلق المسلمون سراحهم. ويتكون الكتاب من 38 فصلا، وابتداء من الفصل الثلاثين، يعرض لمعطيات تهم علاقات المسلمين بالإمبراطورية البيزنطية، فيشير فعلا إلى النبي محمت (محمد صلى الله عليه وسلم)، لكنه يخص الخليفة عمر ببعض المعطيات ويلقبه بالملك، مما لا يمكن أن ينسحب على أي شخص آخر، وفيما يلي نص سيبيوس مترجما عن الترجمة الفرنسية:

" لما توجه أبناء إسماعيل إلى الشرق، لم يكن ملكهم عمر حاضرا بينهم، وبعد أن حققوا الانتصار وقضوا على الإمبراطورتين، أصبح مسيطرا على المجال الممتد من مصر إلى طوروس…"

Histoire d’Héraclius, par l’Evêque Sébeos,Traduit de l’Arménien et annotée par Frédéric Macler ,Journal Asiatique, Deuxième Trimestre, 1905.

وبعد قرن من سيبيوس، أي في القرن 8م، كتب المؤرخ الأرميني "فاردابت ليوند" كتابا استعرض فيه العلاقات بين البيزنطيين والمسلمين من سنة 632م إلى سنة 788م وذكر أسماء الحكام المسلمين ومدد حكمهم، بمن فيهم الخليفتان أبو بكر وعمر بن الخطاب. ورد في بداية الفصل المخصص للصراعات بين البيزنطيين والمسلمين:" خلف محمدا (محمت) أبو بكر (632-634) وعمر (634- 644)".

Arzoumanian, Z , History of Lewond, the Eminent Vardapet of the Armenians, Philadelphia 1982.

والجدير بالإشارة إلى الكتاب كان محط بعض اللقاءات العلمية المتخصصة، من ضمنها :

Colloque Franco-Arménien,Paris,1966.

ومن أبرز المساهمات بها :

Martin Hisard, L’empire Byzantin dans l’œuvre de Lewond(pp 135-144)

ويتوزع المتخصصون في تاريخ العلاقات البيزنطية الإسلامية حاليا بين عدة جامعات أوروبية، ويمكن أن نذكر من بينهم :

Valentina Calzolari Bouvier

الأستاذة بشعبة اللغات والآداب المتوسطية والسلافية والشرقية بجامعة جنيف بسويسرا. كما أن ثمة جمعيات علمية متخصصة تهتم بالموضوع نفسه، مثل جمعية أصدقاء مركز تاريخ وحضارة بيزنطة بكوليج فرنسا. و كان حريا بالسيد أيلال الاطلاع على الدراسات المتخصصة في الموضوع، قبل التسرع بجرة قلم في الحكم على شخصيتين بعدم الوجود التاريخي. كتب الفرنسي" الفرد لوي دي بريماري" الذي صاحب طويلا مصادر الإسلام المبكر عن كتابة هذه المرحلة ما يلي: "كان الإخباريون المسيحيون شهودا على الفتوحات العربية في بلدان الشرق الأدنى ومصر...وكلما تقدم الفتح العربي، وترسخت السلطة الجديدة، سوف يتحدثون عن خلفاء محمد: كأبي بكر وعمر"( تأسيس الإسلام بين الكتابة والتاريخ، دار الساقي، 2009، ص 39).

- هل تم الاطلاع على نتائج الحفريات والنقوش بشبه الجزيرة العربية؟ أثبتت الأبحاث المرتبطة بهاذين العلمين –على قلتها - بعض المعطيات ذات الصلة بالمرحلة المبكرة بالإسلام. فثمة منطقة الجهوة بجنوب المملكة السعودية تتضمن نقوشا صخرية لبعض الصحابة أحدها يحمل اسم عبد الله بن عمر(بن الخطاب)، ولعل أقدم نص إسلامي منقوش على الصخر بالمملكة، ذاك المعروف ب"نقش زهير" الذي اكتشفه الباحث السعودي علي إبراهيم الغبان، وقد جاء فيه:" أنا زهير كتبت زمن توفي عمر سنة أربع وعشرين" (منشورات مكتبة الملك فهد الوطني، 2008). وقد أدرج هذا الاكتشاف ضمن سجل برنامج "ذاكرة العالم" باليونسكو. ولا يخامرنا شك في أن المقصود بعمر في النقيشة، هو الخليفة عمر بن الخطاب لأن وفاته تصادف نهاية 23ه وبداية 24ه، ثم لمكانته في تاريخ الإسلام، سيما أنه كان وراء عملية بداية التأريخ بالهجرة لدى المسلمين. وللاستزادة في موضوع أهمية النقوش الصخرية في كتابة بدايات الإسلام، يمكن الرجوع إلى دراسة متخصصة هي:

Fréderic Imbert, L’Islam des pierres. L’expression de la foi ,in Les graffiti des premiers siècles, Revue des Mondes Musulmans et de la Méditerranée ,N 129,Juillet, 2011.

وصفوة القول، يبدو أن السيد أيلال قد اقنع نفسه بضرورة "تحريك الماء الآسن"، لكنه خاض في بركة لا قبل له بما تستوجبه من عُدّة معرفية ومنهجية، وإلا أصبح الخائض فيها حاطب ليل ليس إلا. غير أن الحس النقدي العلمي يقتضي عدم انسحاب ذوي الاختصاص لمطارحة الأفكار سواء أكانت مؤسسة أم مجرد خرجات غير محسوبة، بعيدا عن التشنج وكيْل النعوت، من قبيل "الجاهل" و"المفلس"...بل بمقارعة الحجة بالحجة، وما دون ذلك، فإنه ليس بخادم للفكر البناء، بل منتصر للمكابرة.

 

مصطفى نشاط