ضمن ما انتهت إليه هيئة الإنصاف والمصالحة من توصيات حول مسألة الأرشيف وكتابة تاريخ المغرب الراهن من خلال مركز دراسات يتوجه بعنايته لفترة 1955-1956، وضمن ما باتت عليه الذاكرة الوطنية من أهمية باعتبارها مرجعاً لماض قريب يهم الإطار المغربي، يمكن ترتيب قيمة سلسلة مذكرات رأت النور في العقدين الأخيرين، تلك التي بادر إليها عدد من الوطنيين والقياديين في جيش التحرير والكفاح المسلح، منها مذكرات عبد الله الزكريتي "سيرة ومسار مقاوم، ومضات مضيئة من تاريخ قبيلة اجزناية زمن المقاومة وجيش التحرير"، التي تحتوي كسابقاتها ما من شأنه إغناء رهان إعادة كتابة تاريخ هذه الفترة، كسيرة ذاتية بأسئلة عميقة تخص سنوات حرجة بمسالك ووقائع متشعبة.

وإذا كانت المذكرات لا تقتصر على وجهات محددة، فإن التاريخي منها كما كفاح المغاربة من أجل الاستقلال يشكل بحق مجالا خصبا للكتابة حول وقائع هامة، هي بمثابة دعوة لمن ما يزال على قيد الحياة من الشهود العيان من أجل سِيَرٍ بقيمة لفائدة ذاكرة تاريخية أقل غموضاً.

وعبد الله الزكريتي الذي لم يغفل في مذكراته حول الكفاح المسلح بالمغرب، وقبيلة اجزناية تحديداً شمال تازة، ما هو مجالي يخص المنطقة عموماً، بما في ذلك ممر تازة الشهير وما أحيطت به قبائله من تتبع استعلامي فرنسي كمجال استراتيجي فاصل، أورد أنه بعد نفي سلطان البلاد الشرعي محمد بن يوسف 1953 تأسس جيش التحرير بشمال المغرب، لينتقل نشاطه إلى شمال تازة حيث قبيلة اجزناية والجبال والتمرس على المقاومة.

وأكد أن تازة كانت محوراً لتنقل قيادات المقاومة بين منطقتي النفوذ الإسباني والفرنسي وبين المغرب والمشرق ودول الجوار لتوفير سلاح بدء العمليات، مضيفاً أنه بعد تكوين خلايا جيش التحرير أواخر 1954 وتوفير السلاح عبر باخرة دينا 1955، تم تدريبها اعتمادا على خبرة من شاركوا في حرب الريف والهند الصينية ومن فر من الجنود المغاربة من ثكنات القوات الفرنسية، مشيراً إلى ما سُجل بمثلث الموت من عمل فدائي حيث مركز بورد وتزي وسلي وأكنول، بعد قطع خطوط الاتصال لعزل المنطقة قبل الهجوم على ثكنة بورد والاستيلاء على ما كان بها من أسلحة وذخيرة.

ومن خلال مذكراته، يرى عبد الله الزكريتي، عضو المجلس الوطني المؤقت لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، أن ما كُتب حول فترة الكفاح المسلح بحاجة إلى تجرد أكثر، خاصة عندما يتم القفز عن علاقة جيش التحرير بمحمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي قام بدور هام فيه من منفاه من خلال تأسيسه للجنة تحرير المغرب العربي 1947 وإصداره وثيقة التحرير 1948، وإعلانه خطة حرب تحرير 1949 تضمنت توجيهات همت سبل القتال وما يوجد بحوزة القوات الفرنسية وكذا سبل استمالة من كان من المغاربة في صفوفها، ومعها عملية تدريب وكيفية الاحتماء وحفر الخنادق وغيرها.

وأضاف أن محمد بن عبد الكريم الخطابي ركز في تكوينه لجيش التحرير على من شارك في حرب الريف وفلسطين وكان مجنداً ضمن القوات الفرنسية من المغاربة، وأنه التقى بوفد عن قبيلة اجزناية عام 1952، مشيراً إلى أن أغلب رواد جيش التحرير حاربوا تحت إمرته وظلوا مستلهمين لثورته، ومنهم عبد القادر اشتاتو والحسن الزكريتي ومحمد بن عمر أختو وعبد العزيز أقضاض، مع ما أورده حول بعثة أرسلها الحسن الزكريتي للقائه في منفاه، في إطار الإعداد للكفاح المسلح تمهيداً لعمليات 2 أكتوبر 1955.

ومن جملة ما جاءت به مذكرات عبد الله الزكريتي كون مركز الناظور شكل انطلاق تنظيمات جيش التحرير، متحدثاً عن التموين بالسلاح ومهام القيادات وعن نداء وُجِّهَ لمن كان في صفوف القوات الفرنسية من المغاربة، وعن مناطق عسكرية محددة بدقة هي تزي وسلي وبورد وأكنول وبوزينب ومرموشة وبوسكورة وغيرها. وإلى جانب ما حصل من تدريب على حمل السلاح، أشار إلى أن قبيلة اجزناية كانت بثلاث مناطق حربية وفق تنظيم محكم مع تركيز على حرب العصابات.

وحول سلاح المقاومة ومصدره، وردت جزئيات حول اتصالات وتنقلات لهذه الغاية بين أماكن عدة ومدن، إلى حين بلوغ باخرة "دينا" ساحل كبدانة بالناظور مارس 1955، التي كانت محملة بأسلحة لفائدة المجاهدين بالمغرب والجزائر معاً. إضافة إلى أن بلوغ السلاح لقبيلة اجزناية تم عبر دفعتين، وأن ما قيل حول إعداد هجمات مركز تزي وسلي وبورد وأكنول ما يزال بحاجة إلى تدقيق، هذا قبل جردٍ لمعارك جيش التحرير بقبيلة اجزناية وجوارها عبر تعريف دقيق ورد فيه الزمن والمكان والعدة والهدف والاشتباك والنتائج، وهي بحوالي عشرين معركة حصلت في الفترة ما بين ثاني وسابع عشر أكتوبر 1955.

وحول ما عاشته الجالية الأوروبية بتازة وأريافها من خوف وقلق بسبب عمليات جيش التحرير، أشار الزكريتي لهجمات واغتيالات واختطافات توجهت لمقاولين وجنود ومعمرين فرنسيين ولمراكز حراسة وقطارات وسيارات مدنية وعسكرية...، مع ما حصل من حظر تجوال بتازة خلال فبراير 1956 دون إغفال مقتل قائد غياتة "ادريس المجاطي" وابنه، وما تعرض له عامل تازة "محمد الخياري" من إصابة إثر الهجوم نفسه الذي قال عنه إنه عمل فدائي تنويعي خارج مثلث الموت.، ودون إغفال ما أسهمت به المرأة ضمن جيش التحرير، سواء بتازة أو بقبيلة اجزناية، وما قامت به من تمرير وإخفاء للأسلحة وحمل المؤن للمعتقلين والمقاومين ونقل للخبر وطبخ للطعام وسقي للماء وتضميد لجراح المصابين من المقاومين.

وأشار إلى أن منهن من سقطن في معارك مثل الشهيدة "فاطمة يتيوي"، ومن كن يشتغلن تحت إمرته كما بالنسبة لميمونة مفتوح بنت محمد والصغيرة حدومة وحسني ميمونة وغيرهن من نساء هذه الملحمة.

وحول مثلث الموت الذي شغل الرأي العام الفرنسي آنذاك، أورد الزكريتي أنه شهد حوالي خمسين هجوماً وحوالي خمسمائة قتيل في صفوف القوات الفرنسية وتسعين شهيداً عن جيش التحرير، مشيراً إلى أنه رغم عودة ملك البلاد الشرعي من منفاه ظلت غارات القوات الفرنسية مستمرة على قبيلة اجزناية.

وقد جاءت مذكرات الزكريتي بأرشيف معبر من صور ووثائق على درجة من القيمة التاريخية، مع جداول لوقائع الكفاح بقبيلة اجزناية وتازة عموما بترتيب كرونولوجي ما بين فاتح أكتوبر 1955 ومارس 1956، معتبرا لقاء "تلامغشت" بين ولي عهد المغرب آنذاك وفرق جيش التحرير بتاريخ 2 يوليوز 1956، لقاء تاريخياً جمع قيادات منطقة بورد وتزي وسلي وأكنول ومغراوة وصاكا وبني يزناسن وبني وراين وناحية فكًيكً، تم فيه إعلان انضمام جيش التحرير للقوات المسلحة الملكية.

يبقى أن مذكرات عبد الله الزكريتي التي صدرت عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط، هي بغلاف مركب في بنائه وترتيب مكوناته، حيث نقاط الكفاح المسلح من أجل الاستقلال بقبيلة اجزناية مع خريطة لمعاقل قتال خاضه جيش التحرير بمثلث الموت. وهي من 250 صفحة من القطع المتوسط معززة بتسعين صورة تاريخية وأربعة وعشرين وثيقة وسبعة جداول، مع تقديم بقلم مُلم عارف بقيمة مضافة هامة أورد فيه الأستاذ ميمون مارسي أن إقبال الناس على ماضيهم هو تأكيد لرغبة تعميق نظرهم وشحن عزائمهم ورفع معنوياتهم من أجل زمن آتٍ في ضوء ما هو ماضٍ.

وإذا كان التاريخ، يضيف الأستاذ ميمون مارسي، بأثر على أخلاق الأمم لما يحتويه من مآثر وبطولة وحالة سلف، فإن أعمال من كان لهم فضل في تحرير بلادهم تعد درساً في وطنية ومواطنة لفائدة الناشئة، ومذكرات عبد الله الزكريتي الجزنائي التي توزعت على سيرة ومسار أحد قادة ملحمة عمليات جيش التحرير بقبيلة اجزناية، بقدر توسيعها لوعاء كتابة حول فترة دقيقة من زمن المغرب الراهن من حيث أبعادها ووقائعها وسياقها وحساسيتها، بقدر تعميقها لما هو بقيمة مضافة فيها تجاه ذاكرة وطنية من خلال توثيق وتناول، تحفيزاً لنبش أكثر في ذاكرة وطن خدمة لحاضره واستشرافاً لمستقبل تنمية مستدامة به وشاملة.

عبد السلام انويكًة