في مثل هذا الشهر، قبل ستين عاماً بالضبط، وقعت «مناظرة المطبخ» الشهيرة التي تغنى فيها خروتشوف بمزايا الشيوعية وفاخر بإنجازات الاتحاد السوفييتي، فردّ عليه نيكسون، الذي كان آنذاك نائباً للرئيس آيزنهاور، بإعلان أفضلية الرأسمالية وتأكيد التفوق التكنولوجي الأمريكي. وحمي الجدال واحتدت اللهجة، وطالب نيكسون الزعيم السوفييتي بالكف عن مقاطعته، فبلغ الغضب بخروتشوف حد التحذير من «عواقب وخيمة». حدث كل هذا رغم أن اللقاء بين الرجلين قد تم في مناسبة دبلوماسية هي افتتاح المعرض الأمريكي في موسكو الذي سبقه معرض سوفييتي في نيويورك.
أما في زمننا هذا فلا مناظرات ولا مساجلات، ولا حتى اختلافًا في الرأي. بل إن في وسع حامل لواء حلف الدكتاتوريات و«الديمقرا ـ توريات» أن يلعب بمفرده في نسخة أحادية من مناظرة أو مباراة المطبخ، وأن يعلن وفاة الديمقراطية الليبرالية من أحد أعلى المنابر الإعلامية الغربية، فلا يجد في المقابل سوى رئيس أمريكي خليّ البال ليس عنده ما يقول، سوى أن ينصحه مازحاً بـ«التخلص من الصحافيين» الذين أتوا لنقل وقائع مؤتمر أوساكا. هذا علماً أن بوتين في غنى عن النصح لأنه متعود على التخلص من الصحافيين بالفعل؛ فمنذ وصوله إلى الحكم، وقع اغتيال ما لا يقل عن 26 صحافياً، كان ذنب معظمهم أنهم أجروا تحقيقات بشأن الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها السلطات الروسية.

وقبل سفر ترامب إلى اليابان، استفسره الصحافيون عن المسائل التي سيثيرها مع بوتين، فأجاب: «ليس هذا من شأنكم»… ويبدو فعلاً أنه يتصور أن الصحافة تتدخل في ما لا يعنيها عندما تهتم بالسياسة! أما عندما سئل في أوساكا إن كان سيفاتح بوتين في مسألة عدم تكرار التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، فإنه رد باستخفاف «طبعاً سأفعل»، مثيراً بذلك ضحك بوتين. ثم قال بتهكم، دون أن ينظر لبوتين: «من فضلكم، لا تتدخلوا في الانتخابات». كما أن الابنة المدللة إيفانكا لا تني تتنقل مع أبيها، تحضر في كل محضر وتفتي في كل شيء، مثلما بدا من تدخلاتها السخيفة في الحوار الذي جرى بين ماكرون وتيريزا ماي، ومن إعراض مديرة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، عنها وتجاهلها لها، حتى إن الأقوام «التويتريين» قد ركبوا لإيفانكا صوراً مع تشرشل وروزفلت وستالين في مؤتمر يالطا، ومع جنود الحلفاء في عملية إنزال ساحل النورماندي، ومع أول رائد فضاء على سطح القمر.
فهل يلام بوتين بعد كل هذا على عدم أخذه الديمقراطية الغربية مأخذ الجد؟ لقد تبين أن ترامب ذاته، أي مجرد وصول شخص من طينته إلى الحكم، هو الدليل الأول على ما سماه بوتين «انتهاء صلاحية الليبرالية»، حيث قال للفايننشيال تايمز إن انتخاب ترامب وصعود الحركات الشعبوية في أوروبا يثبتان أن الليبرالية صارت تتعارض مع مصالح الأغلبية الساحقة في المجتمعات الغربية. فأتاه الرد البليغ من رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك، بأن ما تجاوزه الزمن وانتهت صلاحيته فعلاً هو «الحكم التسلّطي، وعبادة الحكّام، واستئثار الفئة الأوليغارشية القليلة بالسلطة والثروة، حتى لو بدا أحياناً أن هذا النوع من الحكم يتسم بالفعالية والنجاعة».
ومع ذلك، وجب الاعتراف بأن وريث خروتشوف أثبت أستاذية في التنظير الماكيافللي، إذ لو لم تكن تنظيرات بوتين مجرد تبريرات لمصالحه الشخصية والسياسية لما مضى إلى حد اعتبار قرار ألمانيا استقبال مليون لاجئ، معظمهم من السوريين، «خطأ جسيماً». على أن هنالك دليلين يكفيان لإثبات بطلان المزاعم التنظيرية لهذا الدكتاتور الذي لا يرحم ولا يريد لرحمة الله أن تنزل: الأول هو أن النظام الجزائري، الذي هو أقرب الأنظمة السياسية شبهاً بالنظام الذي يمثله بوتين، سواء في نسخته السوفييتية السابقة أم النسخة الديمقراتورية الحالية، لا يزال يتعرض منذ أشهر لهبّة شعبية عارمة تطالب بكنسه وتعويضه.. بماذا؟ بنظام ديمقراطي ليبرالي! أما الدليل الثاني فهو أن مواطني هونغ كونغ برهنوا للعالم أنه لا رغبة لديهم في دخول جنة الدكتاتورية التي يعدهم بها الأخ الصيني الأكبر، وأنهم سيبقون مستميتين في الدفاع عن الحريات والمكتسبات الليبرالية الموروثة عن العهد البريطاني.

مالك التريكي