مع اكتساح الثورة الرقمية والمعلوماتية جميع مجالات ومناحي حياة الإنسان المعاصر، وتطوير وتنويع أساليب معاملاته.. وغزوها لكل الفضاءات الخاصة والعامة بحيث تحولت إلى سلوكيات يومية يمارسها الكثير من الناس بشكل عادي ومألوف عبر وسائل التواصل الحديثة، من هواتف ذكية وحواسيب ولوحات إلكترونية..كلها مرتبطة مباشرة بالشبكة العنكبوتية التي تسهل على المتصفح الإبحار عبر بوابات إلكترونية تلبي له جميع طلباته وتفيده في أي موضوع أو مسألة يبحث عنها ، في أي مجال علمي أو معرفي أو ثقافي أو سياسي أو اقتصادي أو غيره ..!!؟؟

الأنترنيت اليوم في خدمة العولمة .. في خدمة الرأسمالية العالمية وشركاتها العابرة للقارات.. في خدمة تحويل الأموال بسرعة فائقة ..في تحويل كذلك البضائع ..!! كل العالم أمسى قرية صغيرة عبر شبكة تواصلية عالمية تتحكم فيها الأقمار الاصطناعية في أوج الثورة المعلوماتية والرقمية.. وهناك من يسميها الثورة الصناعية الرابعة. وفي ظل هذا الاكتساح الرقمي الجارف، تغيرت عدة عادات قديمة-تقليدية ومعها أشياء وسلوكيات لدى بني البشر، وما كان مألوفا بالأمس أمسى حالات شادة في وقتنا الحاضر..!!؟؟ إذ وسط هذا الزخم عبر تدفق المعارف والمعلومات وانتشار الخبر بشكل سريع عبر العالم بأسره، إذ لم تبق تلك القنوات التقليدية تتحكم في لغة الإعلام والتواصل وغابت الهيمنة والاحتكار التقليديين، وكأننا نعيش اليوم فوضى إعلامية خلاقة..!! إن صح ذاك التعبير.. ولقد كان من ضحايا هذه التحولات المجتمعية العميقة في القرن 21 مجال الإعلام والنشر نتيجة التحرر الذي فرضته وسائل الاتصال والتواصل الحديثة كتابة وتدوينا ونشرا وتعليقا، الصحافة الورقية والكتاب والمجلة وكل ما يدور في فلكها مما هو ورقي مكتوب..!!؟

لقد كانت الصحافة الورقية المكتوبة بالأمس القريب، أي في عصرها الذهبي الذي قد ولى، تلعب دورها الكبير في التثقيف و توجيه الرأي العام ونشر الأخبار، وفي غياب المنافس لها، كما هو الحال الآن، فعادة ما تقرأ خبرا ما في جريدة ورقية بعدما يكون قد أمسى من الماضي، لأنه قد تم نشره في أكثر من موقع إلكتروني و بسرعة البرق، ولم يعد له أي أهمية تذكر لدى القاريء. وجل الشركات المساهمة في المنابر الإعلامية الورقية نجد أن أكثرها اليوم غير وجهته نحو العالم الرقمي عبر إحداث مواقع إلكترونية أو محطات إذاعية أو تلفزية مستقلة، وذلك محافظة على أسمائها، وإعطاء الأسبقية لها بدل المنتوج الورقي. وهناك منابر ورقية ، ما زالت تساير النشر كما نجده الآن عندنا في المغرب ودول أخرى ،وهناك بعض الجرائد عينها، التي يمكن اعتبارها من بين المنابر التي ما زال الزبناء يرغبون في قراءتها في

المقاهي وبعض الفضاءات العمومية، وترى بأم عينيك كيف يتم التسابق على قراءتها ، أما الاقتناء من الشبابيك، فقد عرف تراجعا ملحوظا ، وعادة ما تجد اليوم شخصا يحمل جريدة أو كتابا في يده ، لأنها أمست حالة غير مألوفة وسط الشارع المغربي الآن. كما كان في زماننا بحيث نجد أن مصدر الخبر والمعارف والمعلومات لا يخرج عن نطاق المكتوب الورقي..أما جرائد الأحزاب قد عرفت هي الأخرى تراجعا ملحوظا على الإقبال على شرائها لما كنا نعرفه بالأمس القريب، بحيث كان جل القراء يشربون قهوة الصباح الباكر السوداء مع أول سيجارة يشعلونها وفي أيديهم جريدتهم المفضلة…!!!؟؟؟

ومن بين ذكريات ذاك الزمان الجميل ، حينما كان للجريدة الورقية رمزيتها وصورتها القوية والمؤثرة، ومعها صورة الحزب عينه الذي يصدرها وسط الجماهير الشعبية المتعطشة للخبر والمعرفة، بحيث جل المغاربة المتعلمين كانوا مولوعين بقراءة الجرائد الحزبية. بحيث أنه في جل الأكشاك تنفد الأعداد قبل وقت العصر، وخاصة جرائد المعارضة التي لا تزيغ عن خطها التحريري المتميز، والذي يساهم في تأطير وتوجيه الرأي العام الشعبي، كما أن شراء جريدة الحزب كان فرض عين على كل المنتمين وكذا بعض المتعاطفين ..وأينما أخذك بصرك قد تصادف عينك جرائد بعينها وكانت المبيعات بأعداد كبيرة جدا ، أما في وقتنا الحاضر فلا أظن بأن هناك أي التزام أخلاقي أو سياسي ما زال سائر المفعول كي يقتني كل منتمي و منتمية للحزب الفلاني جريدة حزبه، كدعم مادي ومعنوي لها..ويعتبر ذلك فصل من الفصول المقلقة التي أمسى يعيشها الورقي المكتوب سواء جرائد ومجلات وكتب.. وذلك نتيجة التحولات الجذرية والعميقة في حياة البشر وهيمنة الثورة الرقمية والمعلوماتية بالإضافة للتحولات السياسية والثقافية والإعلامية.. التي عرفها المغرب ومحيطه العربي والإقليمي والدولي وذلك منذ ما يزيد على أكثر من عقدين من الزمن…!!!



عبد الرحيم هريوى