-1-

مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، تزايد الوعي في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية بأهمية الإنسان هدفا ووسيلة في التنمية الشاملة، بعد الخروج من ويلات هذه الحرب بحالة من الذهول والصدمة من هول ما حدث للقارة الأوروبية وللعالم نتيجة الدمار الإنساني، والخسائر الاقتصادية العظيمة، فنشأت المفاهيم الأولية "للتنمية البشرية" بهدف تحقيق خروج سريع من النفق المظلم الذي خلفته تلك الحرب المدمرة.

هكذا برز في نهاية القرن الماضي مصطلح التنمية البشرية بقوة في الخطاب السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي على مستوى العالم، لإبراز العلاقة بين ما يمكن تحقيقه من نمو اقتصادي، وبين تنمية الإنسان / تنمية القدرات البشرية من خلال زيادة خبراتها وتعزيز مفاهيمها للحرية والإبداع وحقوق الإنسان، ليكون الناس قادرين على أن يكونوا ما يريدون، على أن يفعلوا ما يستطيعون، مع التركيز على خلق فرص أفضل وخيارات عادلة لكل الأشخاص.

وقد أبرز هذا الخطاب (العالمي) على مستوى الإعلام أن العنصر البشري الذي كان ضحية الحروب هو أول المحاور التي تركز عليها مفاهيم التنمية البشرية، وهو ما جعلها تحظى باهتمام متزايد من قبل المنظمات الدولية والشركات والإدارات الحكومية، لما لها من دور مؤثر على نجاح التنمية المستدامة.

-2

في مطلع الألفية الثالثة، قدمت الأمم المتحدة "التنمية البشرية" إلى العالم بأنها العملية التي توسع خيارات الناس عن طريق توسعة القدرات البشرية للأمم في كافة مستويات التنمية، وتأمين حياة أفضل صحيا وتربويا وماديا لكل البشر؛ وهو ما دفع بخبرائها إلى وضع عشرة أهداف أساسية لها كميثاق دولي.

تقول هذه الأهداف:

تنمية المعرفة والمهارات المكتسبة من خلال دعم التعليم الأساسي.

العيش في بيئة صحية، بتقديم خدمات صحية أساسية، وتوفير الخدمات الوقائية الطبية لكافة المواطنين.

توفير مستوى جيد ولائق في المعيشة للمواطنين، بتقديم خدمات الحماية الاجتماعية للأفراد، وخاصة الفقراء، وتقديم الإعانات الغذائية والنقدية التي تحتاجها الأسر الأكثر فقرا.

توفير المساكن لمن يحتاجها، والطرق التي تساعد على رفع مستوى المعيشة، وتقديم قروض صغيرة لمن يحتاج إلى عمل يؤمن له كفايته ويسد حاجته.

تحسين مستوى أداء المواطن.

تقليل حوادث الشغل قدر الإمكان.

تحسين ثقة المواطن بنفسه.

تحسين المستوى الاجتماعي للمواطنين بما يضمن لهم فرصا أفضل للعمل، وللحياة.

تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

سد الفجوة ببن التقدم والتخلف.

-3

تقول هذه الأهداف بصراحة ووضوح إن من ركائز التنمية البشرية أن يكون لجميع المواطنين حقهم في التعليم والرعاية الصحية والسكن والشغل، وأن يكون من حق الجميع تكافؤ الفرص، وأن تكون للمواطنين المشاركة الكاملة في تنمية المجتمع، والمشاركة في عمليات صنع القرارات المتصلة بالتنمية المستدامة.

وتقول هذه الأهداف بصيغة أخرى إن التنمية البشرية هي العملية التي يتم بها توسيع القدرات البشرية الخاصة بمجال التعليم، لتمكين الأفراد والمجتمعات من تحقيق مستوى مرتفع من الإنتاج والدخل والحصول على حياة أفضل، صحيا واجتماعيا وثقافيا.

وتقول هذه الأهداف بصوت مرتفع إن التعليم من أهم مكونات التنمية البشرية، فهو أمر ضروري لنجاح جهودها.

التعليم يمثل للفقراء فرصة للاستثمار دون حاجة إلى رأسمال مادي، وعلى الحكومات أن تتيح هذا الحق دون قيد أو شرط لكافة المواطنين فقراء أو أغنياء، قرويين أو مدنيين.

وتقول هذه الأهداف إن التعليم رافد لأنشطة التنمية وعناصرها المختلفة، فهو يساعد على بناء مجتمع قوي، سليم، يسوده السلام الاجتماعي، يساعد المواطنين على الانفتاح على مجتمعهم، على تراثهم الحضاري، على قيمهم الثقافية، على عاداتهم وتقاليدهم.... وعلى تقليل الفوارق بين الطبقات.

وفي منظور خبراء التنمية البشرية التعليم لا ينتهي بانتهاء المرحلة الدراسية الجامعية، فهو وتنمية وتطوير المهارات أمر مستمر طول الحياة، إذ تهتم التنمية البشرية بتوفير فرص تعليم اللغات والمهارات والخبرات التي تساعد المجتمع على التقدم الحضاري والعلمي.

-4

باختصار شديد، تكمن فلسفة التنمية البشرية في عملية توسيع الخيارات المتاحة للناس/المواطنين، أهمها أن يعيشوا حياة طويلة وصحية، وأن يكتسبوا المعرفة، ويحصلوا على الموارد اللازمة لتحقيق حياة كريمة، إضافة إلى تأمين الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المؤدية إلى فرص الابتكار والخلق والإبداع والتمتع بالاحترام الشخصي وحقوق الإنسان.

السؤال الذي يطرح نفسه في هذه المراجعة لمرتكزات وقيم التنمية البشرية وأهدافها.. أين المغرب منها؟.. وماذا حقق حتى الآن من هذه الأهداف والمرتكزات..؟.

إن أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية تقول هي الأخرى بصوت مرتفع إننا بعيدون جدا عن فلسفة وأهداف هذه التنمية، وإننا نملأ الوقت بالفراغ عندما نستمع إلى خطابات الحكومة/الحكومات عن سياساتها التنموية البشرية.

لنقل اللهم ارزقنا المزيد من الصبر ونحن نتابع خطابات حكوماتنا عن منجزاتها "العظيمة" بهذه التنمية...

نعم، إنهم لا ينظرون...

 

محمد أديب السلاوي