تتجه الإدارة الأمريكية إلى تصفية القضية الفلسطينية، بعقد ورشة اقتصادية في دولة عربية لفرض الحل الإسرائيلي للإجهاز على القضية الفلسطينية، خدمة لدولة طارئة على تاريخ المنطقة وجغرافيتها، عبر خطة ترامب ل"السلام في الشرق الأوسط "، بالمنطق الاقتصادي ذاته الذي يتعامل به الرئيس الأمريكي مع معظم الملفات السياسية، على اعتبار أن المشكلة الأساسية لدى الشعب الفلسطيني هي الحالة الاقتصادية المتردية وليس الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه. وأعلن البيت الأبيض انطلاق مسلسل الاملاءات الأمريكية المعروفة إعلاميا ب " صفقة القرن " ، من العاصمة البحرينية المنامة، 25 يونيو المقبل، بهدف " تشجيع الإستثمار في الأراضي الفلسطينية المحتلة "، وبذلك تكون الإدارة الأمريكية قد استبدلت شعار " الأرض مقابل السلام " بشعار " الازدهار مقابل السلام " ! .

ومن الواضح أن البحرين لا تملك من الأمر شيئا، فهي ليست صاحبة القرار، بل إدارة ترامب وحليفيها الأهم بالخليج قرروا، والبحرين لبّت. وقالت صحيفة " نيويورك تايمز " الأمريكية، إن ترامب وصهره، يحاولان عقد الصفقة ل " تأمين " التزامات مالية من دول الخليج العربي الغنية، والجهات المانحة وآسيا، لحث الفلسطينيين و " حلفائهم " على تقديم تنازلات سياسية للاحتلال الإسرائيلي، دون التطرق إلى الملفات السياسية. وتأتي هذه الخطوة في وقت أصبح الانحياز الأمريكي لإسرائيل واضحا، بعد أن تسلم ترامب رئاسة الولايات المتحدة، وقيامه بالاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة للاحتلال، وقطع الدعم الأمريكي عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وغيرها من الممارسات الداعمة للاحتلال.

وحتى الآن تبقى تفاصيل الصفقة غير معلنة، وفي الوقت الذي صرح فيه ترامب أنه تم إحراز تقدم في تلك الصفقة، نجد وزير الخارجية الأردني يرد على سؤال عن تلك الصفقة بقوله: " عندما يطرحها الأمريكان سنعطي رأينا حولها ". وجميع ما يتم تداوله هو تسريبات صحفية بالأساس. ويوما بعد يوم، تتكشف بنود المؤامرة التي يخططها ترامب وإدارته لمستقبل المنطقة وقضية الصراع العربي الإسرائيلي. ويمكن تلخيص بعض مضامينها الخطيرة كما جاءت في التسريبات الصحفية في الآتي:

1_ الخطة تستهدف تحقيق نفس الأهداف المعتمدة منذ تأسيس إسرائيل، وهي ليست استمرارا للخطط السابقة، بل تشكل خروجا كاملا عن قواعد اللعبة السابقة، فليس مطروحا التفاوض فيها والتوصل إلى تسوية، وإنما تسعى لفرض الحل الإسرائيلي بذريعة أن الواقع الذي أقامته إسرائيل هو المرجعية الوحيدة، في محاولة جادة لفرض الحل بالقوة، واستكمال خلق الحقائق على الأرض، ودمج إسرائيل في " الشرق الأوسط الجديد " الذي طالما سعت الإدارات الأمريكية لإيجاده.

2_ تنكر فاضح لقرارات الشرعية الدولية ولمبادرة السلام العربية، ذلك أن الولايات المتحدة تحاول ابتداع حلول خارج رحم الشرعية الدولية، تنتقص من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره بإقامة دولته المستقلة على حدود عام 1967 بعاصمتها القدس الشرقية، ناهيك عن أن الصفقة تتعارض كليا مع المبادرة العربية للسلام التي ترفض إقامة أية " علاقات تطبيعية " مع إسرائيل قبل إقامة الدولة الفلسطينية

المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية. فكيف ستدعم البحرين والسعودية والإمارات، ومن سيحضر المؤتمر من العرب، الحقوق الفلسطينية، ما دامت القيادة الفلسطينية والفصائل، ورجال الأعمال الفلسطينيين، ومن خلفهم كل الشعب الفلسطيني أينما وجد، يرفضون المشاركة، ويعتبرون الورشة مؤامرة؟ .

3_ الصفقة تقوم على إجبار الفلسطينيين، بمساعدة دول عربية على تقديم تنازلات مجحفة لمصلحة " إسرائيل ". وهي مشروع أمريكي صهيوني يراد منه تهويد فلسطين، وهي لا تضم سوى بعض المقترحات العملية لأجل تحسين حياة الفلسطينيين على المستوى الاقتصادي، لكنها لا تضمن إقامة دولة فلسطينية مستقلة صغيرة بجانب إسرائيل، بل تعرض حوافز اقتصادية مقابل الاعتراف العربي بإسرائيل، والإبقاء على فلسطين في وضعها الراهن، دون أية سيادة و دولة، والسعي لتصفية قضية اللاجئين عبر توطينهم في أماكن لجوئهم، وإلغاء صفة اللجوء عن اللاجئين الفلسطينيين، وتحويل قضيتهم إلى قضية إنسانية، وتغيير السلطة لتصبح بالكامل وكيلا للاحتلال، وبلورة بديل فلسطيني أو عربي عن منظمة التحرير الفلسطينية، وتعميق الانقسام الفلسطيني، وضم أجزاء من الضفة المقامة عليها المستعمرات الاستيطانية، في ظل تصويت الكنيست على قانون " القومية اليهودية " في فلسطين، ومنح العدو حرية تهويد الأرض، الذي تكمن خطورته في تهجير من تبقى من الشعب الفلسطيني من داخل فلسطين المحتلة.

4_ زيادة الحصار المفروض على قطاع غزة، وتشديد الضغوط الاقتصادية والمعيشية على الشعب الفلسطيني، لاحتواء المقاومة وخنقها وتشويه صورتها، وتفريغها من مضمونها، ومحاربة كل من يدعمها، وتلاشي حلم تحرير فلسطين والعودة إليها، وبالتالي نهاية ما يسمى ب " حل الدولتين "، واستحالة العودة لخطوط عام 1967 كحدود لأي كيان فلسطيني مستقبلي، وتكريس سلطة فلسطينية تحكم بصلاحيات محدودة جدا، مدعومة بأجهزة أمنية ملحقة بالكيان الصهيوني.

وأفادت مصادر دبلوماسية عربية لوسائل إعلام بأن بعض الدول العربية تحاول إقناع السلطة الفلسطينية بقبول "صفقة القرن". ونقلت صحيفة الشروق المصرية عن دبلوماسي عربي بارز في القاهرة تأكيده أن بعض العواصم العربية الفاعلة نصحت الرئيس الفلسطيني محمود عباس بقبول الشروط المعروضة عليه اليوم " حتى لا يندم الفلسطينيون لاحقا على ما يعتبرونه اليوم قليلا جدا مقارنة بما كان مطروحا عليهم قبل سنوات ". و أوضح الدبلوماسي أن " عاصمة عربية فاعلة "، لم يسمها، نقلت إلى عباس تصورا مفاده أن " القراءة الواقعية تحتم على الفلسطينيين والعرب القبول بما هو معروض الآن "، مضيفا أن " الحكمة تقتضي بقبول أقصى ما هو متاح من تسوية الآن، والتعامل بمنطق " خذ وفاوض "، حتى لا نتفاجأ بعد سنوات قليلة بأن وحش الاستيطان قد التهم كل الأراضي الفلسطينية " .

وقد أبدت السلطة الفلسطينية انزعاجها من موافقة بعض الدول العربية على المشاركة في " الورشة الاقتصادية " المقرر عقدها يومي 25 و 26 من الشهر الجاري، والتي تعتبر مقدمة لطرح " صفقة القرن " الأمريكية، وأكدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، موقفها الرافض لورشة العمل التي دعت إليها الإدارة الأمريكية في المنامة. ودعت في بيان لها جميع الأطراف التي تلقت دعوات، لعدم الاستجابة، مذكرة بأن فلسطين ومنظمة التحرير الفلسطينية أكدتا عدم حضور هذه الورشة التي تم تصميمها لاستبدال " مبدأ الأرض مقابل السلام" ب " المال مقابل السلام "، مبينة أن نتائج هذه الورشة تعتبر لاغية وباطلة ولن تخلق حقا ولن تنشئ التزاما. وطالبت من الدول العربية التمسك بمبادرة السلام العربية لعام 2002 دون أي تغيير أو

تعديل، وكذلك قرارات قمة القدس بالظهران عام 2018، وقرارات قمة تونس عام 2019 ، وقمة منظمة التعاون الإسلامي 2019 ، وما يضمن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وتجسيد استقلال دولة فلسطين على حدود عام 1967 بعاصمتها القدس الشرقية، وحل قضايا الوضع النهائي كافة وعلى رأسها قضية اللاجئين استنادا لقرار الجمعية العامة 194، والإفراج عن الأسرى.

"صفقة القرن" لها أتباع ومريدون في العالم العربي من أصدقاء ترامب وكوشنير، وكل هؤلاء يصطفون مع المشاريع الصهيونية والأمريكية، خشية من العصا الأمريكية أو تطبيعا للعلاقات مع الكيان الصهيوني، وهم بذلك يرضون بأبشع مراتب المذلة والتنازل عن الكرامة والحقوق لجعل الوجود اليهودي في فلسطين أمرا طبيعيا، والتسليم للكيان الصهيوني بحقه في الأرض العربية بفلسطين، وبناء المستعمرات، وتهجير الفلسطينيين، وفي تدمير القرى والمدن العربية، في محاولة لتركيع الشعب الفلسطيني والمقاومة ونزع سلاحها. وهؤلاء جميعا مهما امتلكوا من قوة وتأثير، لا يستطيعون أن يعطوا الشرعية لأي حل سياسي دون موافقة الفلسطينيين، وهذا ما كان طوال العقود الماضية منذ عام 1948 وحتى الآن. كما أن أكبر ما يهدد هذه الصفقة بالفشل هو تطرفها الكبير لصالح إسرائيل من دون إعطاء شيء للفلسطينيين سوى وعد كاذب ب " الازدهار الاقتصادي "، مقابل إدامة الاحتلال والحكم الذاتي تحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد.



 عبد الله النملي