1 ـ لا أدري لماذا أحدثت طفرة تحيزات علم الاجتماع الوظيفي تأثيرها العميق في مفهومية المقدس والدين. وهو ما ينظره دوركهايم من خلال اعتبار الدين حاملاً للمقدَّس. بينما ينظر للمقدَّس كحافظٍ للنَّظام الاجتماعي وللتوازن.

قد يكون ذلك مثار تساؤل وتأويل معرفي خاضع للوضعية الاجتماعية والثقافية للمجتمع. بينما يمكن تحديد هذه التصنيفات من منطلق آخر، يتعلق بالمعتقدات والتقاليد المحلية التراثية والممارسات التي تجمع الناس.

نفس الشيء يؤكده دوركايم في كتابه " الأشكال الأولية للحياة الدينية " حيث يقول (الدين هو نظام موحَّد من المعتقدات والممارسات المرتبطة بأشياء مقدسة، أي أشياءً يجري عزلها وتحاط بشتى أنواع التحريم، وهذه المعتقدات والممارسات تجمع كل المؤمنين بها في جماعة أخلاقية واحدة .. ).

وجرى تحميل معنى المقدس مدلولا آخر خارج النص، بالاقتران التحريمي، الذي هو المدنس. لما هو شيء نقيض، يعني في ما يعنيه " تشويه أو تدنيس المجتمع الاخلاقي الواحد أو الكفر بوجود كائن متسامي".

بعد تداعي وتآكل فكرة المقدس، على الأقل في شكلها الجديد، حيث تنبع كينونة العقلانية وتحتذي بوضعيتها التحديثية الداعية الى استبدال التفكير الميثولوجي باستيعاب الأدوار المتفاعلة مع وضعيات العلوم والنهضة العولمية، أطلقت سيطرة المقدس، وتململت عن ممارساتها وأشكالها الأولى باتجاه تفكيك عناصر قوتها وإعادة صياغة مفاهيم حديثة من خارج دائرتها، لتشكل مشروعا قريبا من قاعدة المدنس، الذي هو " اللاأخلاقي".

2 - الأنظمة الثيولوجية المستبدة لازالت تعقد آمالها على تحصين وهم المقدس، وتحويله إلى إيمان راسخ في مبدئية طاعة أولي الأمر وعدم الخروج عليهم.

ولهذا فقد أحاطوا هذه القداسة بهالة من التهويل والتهويم، ثارة بأدوات إعلامية متواطئة مع الاجهزة المعلومة وأخرى بتوجيه فرقعات ترويجية لأبعاد محسوبة وخلفيات مخطط لها ومدروسة.

وهم إلى هذا وذاك لازالوا مقتنعين تماما أن التابعين يتنافسون على إبداء جانب من الإخلاص للذات السلطوية المقدسة، وعلى تحقيق رغبات في التمسح والاسترزاق ومدافعة نيران أزمات المجتمع وقيمه وثقافته، فأضحت بدهية الاستسلام للحاكم، ظل الله في الأرض ونائب السلطة الإلهية فيها أمرا تجابه به حتميات التقليد والاستتباع وفروض الولاء والبيعة والتطهر بالدعاء للسلطنة، شيخ الطريقة الذي يسبح بحمده كل الأتباع.

ومع ازدياد الوعي بأهمية الحقوق في مجتمع المعرفة، وتسارع انتقال الحقوق المدنية من سلطة المقدس إلى سلطة المجتمع، بالإضافة لتداعيات انصهار وتداخل عمليات المثاقفة والتثاقف الكوني، وتأثيرات ذلك على مساحات عريضة من الانتظارات السياسية والاجتماعية والثقافية للشعوب المسلوبة الإرادة، صار من اللازم الحسم في مقدرات الثورات العربية الأخيرة بجميع تمفصلاتها. حيث تنبث فسائل جديدة للعقل العربي، ترفض إعادة تكريس واقع المقدس التحقيري المنبوذ، وبالمقابل إعادة صياغة مفاهيم ديمقراطية متوازية مع الأشكال الثقافية المتأسسة على روح شفيفة من العدالة الاجتماعية ومبادئ احترام القانون والدستور، وتحقيق جانب مهم من بناء دولة الحق والقانون.

3 ـ بينما نرى تقديس الكتابة نوعا من التهويل والإيغال غير المنصف، نجرد الوحي من لبوس الإبداع، كي نتحرر من شرنقة الوسم .. من السيوف المسلطة على رقاب المسؤولية..

راعي قيم الكتابة هو أيضا مسؤول عن رعيته.

لكنه ليس كأي راع. فهو شعلة الليل المبهم، فورة الأنفس المقدامة، نبض الشعب وحلمه المحمول على أكتاف الشهادة.

من للقلم أن يكون، لولا قداسته ..!؟

أليس قسما لو تعلمون عظيم!

.(ن والقلم وما يسطرون)

روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن أول شيء خلقه الله القلم ، ثم خلق " النون " وهي : الدواة . ثم قال له: اكتب. قال وما أكتب؟ قال: اكتب ما يكون -أو: ما هو كائن -من عمل، أو رزق، أو أثر، أو أجل. فكتب ذلك إلى يوم القيامة، فذلك قوله: (ن والقلم وما يسطرون) ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة، ثم خلق العقل وقال: وعزتي لأكملنك فيمن أحببت، ولأنقصنك ممن أبغضت".

د. مصــطفى غَــلْمَـان