عند الحديث عن العقيدة الاجتماعية العامة ببلادنا، لا يمكن أن لا يتبادر إلى الذهن حاجة الوطن الآنية إلى توحيد الغايات والأهداف والقيم المجتمعية، وتحويلها إلى أرضية مشتركة مدعمة للفعل السياسي الديمقراطي. إن الدافع الذي جعلني أبرز هذه الحاجة، وفي هذا الوقت بالذات، راجع إلى ما ينتابني من شعور جعلني أصنف المغرب، إقليميا وجهويا، من الأقطار المؤهلة نسبيا في الحاضر لتقوية الروابط بين البحوث العلمية والسياسات العمومية، بما في ذلك السياسة الدينية، إضافة إلى طبيعة التراكمات المحققة، التي تنطوي في اعتقادي على إمكانيات كامنة ضخمة، قد تمكنه من إثبات وتثبيت خصوصيته الثقافية. إنها الإمكانيات التي يمكن أن تتيح له فرص تحقيق التميز في مجال ابتكار الآليات لجعل الإجماع على الوحدة الترابية والثقافية والوطنية دعامة لإيصال المردودية الفردية والجماعية إلى أعلى المستويات الممكنة.

فأمام ما تحقق في مجال التنوير الثقافي في إطار الخصوصية التاريخية والثقافية المغربية، أصبح جليا أن مسار إضعاف مستوى الأنانيات المعرقلة والمفرملة للحوار والانفتاح السياسي قد قطع أشواطا هامة. والحالة هاته، أصبح أغلب المغاربة لا يعير أي أهمية لما ساد في السابق بخصوص الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين. فتجربة العدالة والتنمية في قيادتها لحكومتين متتاليتين بين أن الإسلام هو دين مجتمعي لا يمكن استغلاله لتكريس التمييز والامتياز بين المغاربة في التفكير والابتكار والاجتهاد، وأن أغلب ما ساد من خطابات سابقة باسم الدين لا يمكن تصنيفه إلا في خانة "آليات الاستلاب" الواهية. إن الوعي بضعف الارتباط ما بين الديني والمعرفي والتكنولوجي في هذه التجربة، حول الجدال العنيف الذي قاده ويقوده عبد الإله بن كيران إلى مجرد صراع جانبي وثانوي مقارنة مع ما يتطلبه التنظيم الاجتماعي العام من رؤية شاملة، وأسس ومبادئ وغايات منتجة للطاقات، ومحفزة للتضامن والتعاون والتآخي. كما أن الارتكان الأناني في هذا المعسكر أو ذاك لم يعد مغريا مقارنة لما كان يجلبه من منافع وما يضمنه من ترقيات وارتقاء في السلم الاجتماعي والطبقي. لقد بلغ مستوى الوعي الجماعي، نتيجة تراكم حصائل جرعات التوافق السياسي وتفاعلاتها الميدانية منذ 1998، درجات متقدمة ذات طبيعة تثير أكثر الاطمئنان والثقة في العمل المشترك بدلا من التخوفات والحذر في التعاطي مع الجديد من التصريحات والخطابات والمواقف المعلنة.

وأمام هذه التطورات البارزة، لا يمكن لأحد منا أن لا يلامس على المستوى الترابي حركية نشيطة معبرة أكثر في المجتمعات المحلية عن ردود أفعال مجتمعية جديدة، ومطالب اجتماعية صرفة، بحيث تم الاقتناع مع مرور الوقت كون الخلافات المعلنة من طرف الإسلاميين لا خصم لها، ولا تمت للدين بصلة، ولا علاقة لها بالعقيدة، ولا حتى بأسلوب فهمها وتفسيرها. لقد فطن مجتمع اليوم بكل مكوناته أن افتعال مثل هذا الصراعات ما هو إلا وسيلة تعسفية للحفاظ على موقع في نظام الوساطة السياسية، ليس بمنطق تحقيق التنمية، بل بدوافع أنانية تسعى لإبعاد الروح الجماعية للمغاربة عن مناقشة القضايا الجوهرية والسياسات الكبرى للوطن. لقد نضجت هذه المواقف في سياق جديد تعالت من خلاله الأصوات في مختلف جهات المملكة مطالبة بالتغيير، وطي صفحة المعيقات المصطنعة المعروفة، وفتح المجال على مصراعيه لتحقيق انسجام عناصر القوة الروحية والمادية، الرمزية والعقلية، الدنيوية والدينية في المجتمع.

وباستحضار ما سبق، فبقدر ما أصبحت المسؤولية السياسية تفرض على الإسلاميين التخلص من أنانيتهم بقبولهم المشاركة بحس وطني في تحقيق الإجماع الوطني والحسم في شأن مكانة الدين في المجتمع وطبيعته ومقاصده ودوره، بقدر ما أصبح متاحا لمؤسسة إمارة المؤمنين قيادة مشروع تحديث الثقافة المغربية من خلال بلورة إستراتيجية فكرية تضمن حوارا فكريا مفتوحا ودائما، ومؤسسا على مبدإ جامع وملهم يجنب المجتمع الصراعات المصطنعة التي لا تمت لا بالدين ولا بالتنمية بأي صلة. إن مقومات الشرعية التي راكمتها هذه المؤسسة على مستوى الأداء العقلاني، والتعبير الواضح في العقدين الأخيرين عن عدم حاجتها إلى اللجوء إلى التأويلات التقليدية المصلحية للنصوص الدينية، جعلتها اليوم في موقع مريح لخلق التحول في منطق ممارسة السلطة، وتحويله إلى ثورة سياسية وفكرية للتجديد الديني والثقافي الداخلي، وجعل مقوماته دعامة لتقوية روابط السياسة الوطنية بالنظام العالمي بشقيه المادي والمعنوي. إنه الوقت الملائم لتوجيه المجتمع موحدا لتجديد قيمه، وتنظيم قواعد سلوكه الفردي والجماعي، وبالتالي قطع الأشواط المطلوبة لتثبيت التوازنات المادية والنفسية العميقة وترسيخ النضج المدني.

إن الخبرة التي راكمتها الدولة المغربية تعد اليوم ثروة ثمينة، مقارنة مع دول الجوار الإقليمي، ثروة مشجعة تنطوي على ما يلزم من قدرات ومؤهلات لتوطيد مكانة ودور مؤسساتها المدنية والدينية بالشكل الذي يضمن استفادة المجتمع منها، كأمة وأفراد أحرار، وتضع الشعب المغربي، بمخلف مشاربه، أمام مسؤوليته التاريخية في المشاركة لتغيير أوضاعه، وتقوية وحدته وحماية ثوابته، والنضال الميداني الديمقراطي، بالعمل الجاد، ضد القهر والتمييز والتقسيم الاجتماعي والعرقي والديني.

 

خلاصة

 

 

إن المملكة المغربية، دولة وشعبا، تحتاج اليوم إلى تجديد مرتكزات الحركة الوطنية، ليس بمنطق مفهوم الكتلة التاريخية للمفكر محمد عابد الجابري. إن تطور الأحداث السياسية لم يعد يستحمل البطء أو الحذر في بلورة القرارات وضمان سرعة تنفيذها. فأفق الإصلاح الديني لا يمكن أن يكون إلا ضمان حياد رجل الدين، وحماية الأمن الروحي للمغاربة بدون تمييز، وتقوية الشخصية المغربية، وتجويد مقوماتها واختياراتها السياسية. فالمغاربة يحتاجون اليوم إلى إعادة بناء مفهومي العلمانية والدينية معا وتشييد نسق سياسي وفلسفي جديد بقيم التعاون والتكامل والتضامن، نسق يجعل السياسة آلية ناجعة لخلق الرفاه على أساس التداول المدني على السلطة. إن حياد السلطة الدينية سياسيا أصبح اليوم مطلبا ملحا لخلق التوازنات المستقرة المنتجة، ولتحديد المعاني والمفاهيم الدينية بالشكل الذي يجعل من الوعي الديني الفردي مقوما أساسيا للعمل الصادق وتحقيق المردودية المطلوبة، وتقوية الإجماع الروحي المدعم والموطد للتنظيم الجمعي، والرافع لتحديات التأقلم، بالفعالية المطلوبة، مع ضغوطات التحديث وشروط الاندماج الفعلي والنافع بالنظام العالمي. لقد اندثرت من القاموس السياسي المغربي عبارة "الدولة أداة قهر وتنظيم خارجي (مرتبط بنخب الغرب خارج تقاليد المجتمع)"، والتي سيطرت على المشهد السياسي في سنوات الجمر والرصاص، لتصبح الدولة اليوم، في واقع المغاربة، أداة منخرطة يوميا في التنظيم الذاتي والطوعي للمجتمع، طامحة جعل الحرية الوعاء الثقافي المفضل لترسيخ الروح المدنية والمجتمع المستقر النشيط بجدليته الداخلية، الموطدة لمقومات الانتماء والولاء الجماعي للوطن.



الحسين بوخرطة