إن الاحتجاجات المتكررة لأساتذة التعليم العالي لم تعد تقتصر على الدعوة إلى إصلاح حقيقي للمنظومة، بل أخذت تشمل بشكل ملح وضعية اجتماعية أصبح لا يطيقها الأستاذ الباحث، إذ أن موقعه داخل التراتبية الاجتماعية يعرف تراجعا مستمرا منذ أكثر من ثلاثة عقود، بلغت حدته في السنوات الأخيرة، لدرجة أصبحت معها هموم الحياة الاقتصادية والاجتماعية تطغى أكثر فأكثر على الاهتمامات العلمية.

وبموازاة مع ذلك تراجعت القيمة الاجتماعية التي كانت تشكل دوما رأسمالا رمزيا لكافة رجال التعليم، إذ إن الهيبة الاجتماعية والاعتراف الاجتماعي بنبل المهنة ورجالاتها رفعتهم سلفا إلى مقدمة الهرم الاجتماعي. وتراجع هذه الفئة يطرح عدة تساؤلات حول طبيعة المشروع المجتمعي للبلاد وأهمية التحولات التي تعرفها التركيبة الاجتماعية وكذا المنظومة القيمية.

وإذا كان واضحا أن سياسة الارتجال في قطاع التعليم منذ عقود تعكس بالملموس غياب مشروع مجتمعي واضح المعالم والأهداف، فإننا سنركز في هذه الورقة على آليات تحديد مفهوم التراتب الاجتماعي وتطور موقع رجال التعليم ضمن تلك التراتبية.

فهناك من الباحثين من يرى بأن مفهوم التراتبية الاجتماعية يتحدد انطلاقا من ثلاثة عناصر أساسية، هي: الهيبة، الأجور والسلطة، كما هو الشأن بالنسبة إلى Max Weber، بينما ترى الماركسية بأن طبيعة نظام علاقات الإنتاج هي السبب في التمايز الاجتماعي وتواجد الطبقات، لكن الملاحظ حاليا في المجتمعات المتقدمة صناعيا وذات التقاليد الديمقراطية هو أن السلطة النقابية أصبحت تخول للطبقات المغلوبة الاستفادة أكثر فأكثر من ارتفاع الإنتاجية، وهي ظاهرة ناجمة أيضا عن التجديد الاجتماعي، وهذا مفهوم لم يجد طريقه بعد إلى بلادنا، ويبقى الحوار الاجتماعي شعارا ليس إلا، وخير دليل على ذلك عقم الحوار مع النقابة الوطنية للتعليم العالي منذ عقود.

أما النظرية المستمدة من الوظيفية فترى بأن التراتبية الاجتماعية هي نتيجة مباشرة لتقسيم العمل، أي أن المناصب تتناسب وأهميتها داخل منظومة تقسيم العمل، وبالتالي فإن تلك الوظائف يجب أن يجازى عنها بطرق متفاوتة. وعدم المساواة هاته تؤدي إلى المنافسة بين الأفراد، وهذا ما سيولد لديهم التصور بالفوارق بين الوظائف والمهارات. فالأجور المرتفعة ترتبط بموقع اجتماعي عال، وهي توحي بعكس السهولة التي يمكن إن تؤدي إلى ذلك الموقع الاجتماعي.

ويقدم T.Parsons صيغة أخرى لهذه النظرية الوظيفية، وهي المبنية على أساس القيم، أي أن القيم السائدة في المجتمع هي المبدأ الذي يعتمد عليه في تحديد مبلغ الأجور المرتبطة بالأوضاع السوسيو- مهنية، وهكذا فبالنسبة إلى العديد من المجتمعات المتقدمة سيكون للعلماء ورؤساء المقاولات، الذين يلعبون دورا أساسيا في إنتاج الجديد على الصعيد المعرفي أو التقني، مكانة خاصة داخل المجتمع.

بينما في مجتمعات أخرى سينظر إلى تطوير الثقافة كقيمة أساسية، وبالتالي سيحظى المثقفون والجامعيون بموقع متميز.

وهناك من يرى أن التراتبية الاجتماعية ناتجة عن ميكانيزمات السوق، أي أن تحديد مستوى الأجور مرتبط بالعرض والطلب، وهكذا فإن الدولة المبنية على أساس الدين، مثلا، عندما تصبح مهددة في كيانها ستقدم عادة طلبا قويا للإنتاج الإيديولوجي، وبالتالي سيتقاضى الإيديولوجيون أجورا مرتفعة.

فما نصيب العناصر سالفة الذكر في تحديد التراتبية الاجتماعية ببلادنا؟ لن نجيب هنا عن هذا السؤال العريض، ولكن حالة فئة رجال التعليم ستعطينا فكرة عن بعض الآليات التي تتحكم في تلك التراتبية.

فرجال التعليم كانوا حتى أواخر سنوات السبعينيات يتقاضون أجورا محترمة ويحظون بتقدير اجتماعي كبير، اعترافا لهم بقدراتهم المعرفية ودورهم الفعال في عجلة التنمية. وهذا ما جعلهم يتبوؤون الصدارة من حيث الهيبة الاجتماعية. وتزامن كل هذا مع الطلب الملح للدولة في تكوين الأطر، ثم جاءت فترة "التشبع" فأصبحت المسألة التعليمية تشكل عبئا على الدولة كونها مصدر بطالة من نوع جديد (حملة الشهادات)، وكونها "تستنزف" جزءا مهما من الميزانية العامة، وكأن لسان حال الأجهزة المسؤولة يقول: "لولا التعليـــم لكانت البـــلاد بخير"، فيا له من تصور للتنمية وللمشروع المجتمعي الذي سنرفع به تحديات العقود المقبلة. ولعل مسألة "التعاقد" وسياقاتها المختلفة تندرج في هذه الخانة التبخيسية للعملية التربوية كما عبر عن ذلك الأساتذة المعنيون . كما أن أشكال التعنيف التي تعرض لها هؤلاء مؤشر على تدني الوضع الاعتباري للمهنة في تصورات ذوي القرار.

وسوف ينعكس هذا التصور الرسمي ليس فقط على مردودية التعليم وتفشي الأمية والبطالة، ولكن أيضا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشغيلة التعليمية بكافة مستوياتها. وهكذا تراجعت أجور أساتذة التعليم العالي، مثلا، من الرتبة 3 في سلم الوظيفة العمومية في بداية السبعينيات إلى الرتبة 43 حاليا، في حين قدمت الدولة عدة امتيازات لأطر أخرى، وتزيد في أجور آخرين بسخاء، مما أفرز، من جهة، نوعا من اللخبطة في توزيع الأجور: موظف ذو مستوى تعليمي لا يتجاوز الإعدادي يتساوى مع أستاذ، وآخر في السلم 10 يتجاوز أجرة الطبيب!!! ومن جهة أخرى، أدى هذا الوضع إلى مزيد من الاحتقان لدى فئات سوسيو- مهنية أخرى، ضمنها أساتذة التعليم العالي.

وهكذا تضافرت مجموعة من العوامل في تشكيل التصورات الجديدة للمكانة الاجتماعية، حيث أصبحت تمنح الأولوية لأصحاب الرأسمال التقريري والمالي والأمني، وتفضيل، بل تشجيع طرق أخرى للنجاح الاجتماعي كالهجرة نحو الخارج أو التمجيد والتطبيل للوجبات السريعة للنجاح، والمتمثلة في ركوب موجة "مول البندير" كعنوان للتمايز الاجتماعي دون شقاء، وفي ذلك استخفاف بقيم العمل والجهد وطلب العلم والبحث عن المعرفة.

لقد أصبح رجال التعليم وكذا مجموع المثقفين في ظل القيم الجديدة يحتلون مراتب متدنية في السلم الاجتماعي، ومن ثم فإن الواقع التعليمي والنظام السوسيو اقتصادي لم يعد يشرف ويكرم رجال التعليم، حتى إن الذاكرة الشعبية أصبحت حافلة بالنكت والقصص في هذا الشأن، وهي خير معبر عن المكانة الاجتماعية الجديدة للأسرة التعليمية. فالتصور الحالي الذي أضحى طاغيا لدى الأوساط الاجتماعية العريضة، سواء بالبوادي أو بالمدن، هو أن العملية التعليمية والتربوية لم يعد ينظر إليها كوسيلة للحركية والرقي الاجتماعيين، كما كان الشأن خلال سنوات الستينيات والسبعينيات، ولعل تفشي البطالة في صفوف الشباب المتعلم وحاملي الشهادات والأوضاع المزرية لرجال التعليم في جميع مستوياتهم، كلها عوامل تساهم بشكل كبير في تغيير سلوكات وخطاب فئات عريضة من المجتمع المغربي تجاه المسألة التعليمية ورجالاتها. وهذا مؤشر على ظهور اختلالات عميقة في المنظومة القيمية، تباركها الأجهزة الرسمية بعدم تحركها في اتجاه تصحيح وإعادة الاعتبار للمؤسسة التعليمية والجامعية، بل إن التفضيل المستمر لفئات سوسيو- مهنية أخرى على مستوى الأجور يزيد في تكريس هذه الوضعية.

ولعل تجميد أجور أساتذة التعليم العالي أكثر من عقدين زمن قياسي في سلك الوظيفة العمومية. وأمام تجاهل الدولة للمكانة الوظيفية والاعتبارية لرجال ونساء التعليم- هي التي كان من المفروض أن تكون حريصة على تشريف المهنة وتكريمها، كما هو الشأن في المجتمعات التي تعتبر التعليم والمعرفة أساسا لكل تنمية- أجبر أساتذة التعليم العالي على المطالبة بإعادة الاعتبار للمهنة عبر الزيادة في الأجور كمدخل أساسي للمنظومة الاعتبارية لمهنة الأستاذ الباحث.

إن حالة وضعية الأجور لهذه الفئة تسائلنا جميعا عن معايير توزيع الأجور بالمغرب، وعن حجم التفاوتات التي تطبع هذا التوزيع. وهو وضع أصبح يتطلب إعادة النظر في نظام الأجور ليصبح أكثر عدالة وإنصافا.

إن خلق "تنسيقية الكرامة" انتفاضة غير مسبوقة من أجل رد الاعتبار لوظيفة الأستاذ الباحث ومن خلاله لأسرة التعليم برمتها. وهذا لن يتأتى فقط من خلال الزيادة في الأجور كإجراء آني، بل أيضا في إطار مشروع مجتمعي بديل يقوم على أساس التعليم والبحث العلمي، وفي ظل منظومة للقيم تقدر العلم والثقافة والإبداع وتصون كرامة أهلها.

 

محمد بوشلخة