إن اللغة ظاهرة دينامية حية تتجدد وتتطور لتواكب التحولات الحاصلة في شتّى الحقول المعرفية والفلسفية والسياسية والإعلامية وغيرها.

 فلم يعد بمقدور الإنسان في العصر الحالي حصر هذا السيل من الخطابات التي يتلقاها وفهم فحواها. 

لقد صارت اللغة اليوم هي المؤطر للفعل التواصلي الإنساني بين الأفراد والجماعات.

 سنحاول في هذا المقال أن نسبر أغوار اللغة في الحقل السياسي، وسننطلق من مقولة دقيقة يرى صاحبها أن "الإنسان كائن سياسي" (كريستيان تيليغا، كتاب علم النفس السياسي). 

وتبين هذه المقولة الارتباط الوثيق بين الإنسان والسياسة، وكما نقول باستمرار، إما أن نمارس السياسة، أو تمارس علينا.

والمتأمل في الخطاب السياسي، يدرك أن اللغة التي يستخدمها رجل السياسي تختلف جذيريا عن لغة رجل الدين والاقتصاد والفن وغيرهم، لكنها هذا لا ينفي التقاطع الحاصل بينهما. فلا يمكن أن نتحدث عن خطاب سياسي موجه إلى جمهور بدون لغة؛ فهذا ضرب من الخيال.

 فاللغة تتنوع بتنوع الخطاب، حيث نجد: لغة الإشارة والإيماء، لغة الجسد، ولغة التلفظ.

 إن اهتمامنا باللغة في الخطاب يرجع إلى كونها أهم تقنية حجاجي يتسلح بها السياسي، أو كما أشرنا في العنوان حجة من لا حجة له. 

عبرها يحافظ رجل السياسة على منصبه لمدة أطول -متى امتلك ناصيتها  وعبرها يعلن الحرب، ومن خلالها يحتوي غضب المواطنين الذين قد يعارضون سياسته.

إننا لا نختلف في كون كل خطاب إنساني يحمل رسالة معينة، والخطاب السياسي واحد من هذه الخطابات التي تضمر رسالة لغوية، يوجهها السياسي إلى المتلقي عبر قناة تواصلية قصد إقناعه بمحتواها، ومن خلالها يدفع المتلقي إلى الفعل أو الانخراط (التصويت، أداء الضرائب، التجنيد في حالة الحرب). 

وينجح الخطيب في ذلك متى وفق في اختيار لغة تناسب السياق التواصلي وطبيعة المتلقي  إن اللغة اليوم، هي بديل العنف والحرب مع الآخر في المجال السياسي، ومن يمتلك مقاليد اللغة يظفر بهذه الحرب السياسية. لذلك يراهن السياسي على كفاءته اللغوية في تواصله مع الجمهور/ الحشود. 

وقد استعان رجال السياسة عبر التاريخ بخبراء ومختصين لصياغة خطبهم التي يلقونها أمام الجماهير، فعبر اللغة يسيطرون على عواطفهم فيندفعون إلى الفعل (التصفيق، التصفير، الهتاف ) .

كيف تؤثر اللغة على العقل؟

إذا أردنا أن نبحث في عمق هذا التساؤل، لابد أن نعود أدرجنا إلى أرسطو في الحقل الفلسفي، ونلقي بنظرة ولو خاطفة على كتابه القيم "الخطابة" وقد أشار فيه إلى أهمية الأسلوب (اللغة) قائلا "أن عامة الناس يتأثرون بمشاعرهم أكثر مما يتأثرون بعقولهم ولهذا فهم في حاجة إلى وسائل أكثر من حاجتهم إلى الحجة، فلا يكفي إذن أن يعرف المرء ما ينبغي أن يقال بل يجب أن يقوله كما ينبغي".

 لهذا السبب يحرص السياسي على تنخيل كلماته بدقة، حتى تمارس وقعا وتأثيرا على سامعها، ومتى حدث ذلك حدث الإقناع والاستجابة،وهذا ما يجعل السياسي يراود اللغة ويطوعها لتخدم مصلحته الخاصة؛ فهو ينظر إليها من جانبها النفعي (الحفاظ على منصبه).

وهو ما يجعل من الخطاب السياسي خطاب للمراوغة والتحايل والتلاعب بالكلمات والتعابير اللغوية لتأثير على المتلقي ودفعه إلى تغير أفكار ومواقفه، معتمدا على سحر اللغة وسلطتها على العقل.

 ويتمثل ذلك فيما تمارسه من تأثير يجعل المتلقي يذعن للخطاب أو يندفع إلى الفعل كما أشرنا سابقا (التصويت مثلا) وهو تحت تخدير اللغة، أو يوقف الاحتجاج تحت تأثير الخوف.

إن سيطرة رجل السياسة على اللغة وامتلاكها يعد اللبنة الأولى لتحكم في الناس وفي عواطفهم، ويدعم هذا الكلام ما أشير إليه قوله "السياسيون لا يحتاجون إلى العنف الجسدي لتحقيق هذا التحكم، بل باللغة السياسية".

 وأؤكد "إذا كان معروف أن اللغة أداة سلطة وتسلط، أداة سوس وسياسة،لكن تطور الدراسات اللغوية الحديثة أبرز أن للغة ذاتها سلطة على النفوس والعقول وأنها ذاتها تتضمن رؤية للعالم، وأن تحليل لغة السلطة يتعين أن يمر أولا عبر سلطة اللغة ذاتها، وخاصة في المجتمع الحديث المليء بالكلمات والرموز والعلامات التي تداهم الفرد بواسطة وسائل الإعلام أو وسائل المعرفة المختلفة أو عبر أجهزة الايدولوجيا والسلطة ذاتها". 

في الختام، لا يمكننا أن نظل نتلقى كل هذه الخطابات دون أن نتسلح بآليات وأدوات تساعدنا على فك شفرات الخطاب وفهمه ومعرفة كيفيات التعامل معه، حتى لا نسقط ضحايا سحر اللغة.



دغوغي عمر