"  إن الفشل الكبير في التربية اليوم يرجع إلى إهمالمبدأ أساسي هام : أن المدرسة ما هي إلا مجتمع صغير....." الفيلسوف الأمريكي جون دوي

مع حلول موعد الإمتحاناتالاشهادية وفي مقدمتها البكالوريا ، تسيطر أجواء قلق وتوتر على التلاميذ وعلى وذويهم على حد سواء ، نظرا لما يفتحه الحصول على شهادة الباكالوريا من آفاق مستقبلية لتلاميذ الطبقتين المتوسطة والدنيا  ومن خلالهم لأسرهم.، ومع قدوم هذا الإستحقاق التربوي، يبدأ الحديث عن غول اسمه:" الغش "

 فتشرع الدولة في تجديد وتحيين قوانينها الزجرية، تصدر  بعضها   على شكل دوريات ومذكرات وتختصر بعضها في ملصقات ، وتقيم بعضها على شكل ندوات ولقاءات  للتعريف بعواقب الغش ، وتحدثلجن جهوية واقليمية تطوف على المؤسسات  لتحذير التلاميذ بضرورة الاعتماد على النفس. 

 وتعزيزا لهذه الاجراءات تقوم  الأكاديميات  بفرض توقيع التزام  مصادق عليه  على التلاميذ ; ومنهم "قاصرون"، يتضمن بنود العقوبات الزجرية ،  واجتهدت  بعض الجهات في  فرض التزام مشابه  على أمهات واباء وأولياء التلاميذ ،  يتضمن كذلك العقوبات التي تنتظر ابناءهم إن هم  ضبطوا بالجرم المشهود .كما تصرف ميزانية ضخمة لاقتناء تجهيزات حديثة  لكشف ادوات الغش الاكثر تطورا  تكنولوجيا .

هذا دون الحديث عن الدوريات الموجهة الى الاجهزة الامنية  للمرابطة امام مراكز الامتحان للاستعداد للتدخل والى النيابة العامة للتعامل مع الحالات التي ستعرض على المحاكم .

    هذه الحمى  – في اعتقادي - اعتراف ضمني قاطع على استفحال  ظاهرة الغش وعلى تطور اساليبه وتقنياته. 

واعتبر شخصيا  أنالقانون رقم 02.13 المتعلق بزجر الغش في الامتحانات المدرسية بجميع بنوده وتفاصيله  الصادر بشأن تنفيذه الظهير الشريف رقم 1.16.126 بتاريخ 25 غشت 2016كمقاربة زجرية غير كافية : لأن   ترسيخ مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص وتعزيز الشفافية والمصداقية "يوم الامتحان" لا تكفي فيها الشعارات  والعبارات بل يجب ان تقترن بالفعل وليس فقط يوم الامتحان بل وطيلة السنة بل وفي كل يوم وفي كل ساعة وفيكل دقيقة وفي  كل ثانية .

لا يختلف اثنان أن الغش اصبح آفة من آفات المجتمع المغربي ، ولا يختلفان اثنان كذلك أنه يجب أن نعلم أبناءنا الاعتماد على أنفسهم وأن الامتحانات يجب أن تمر في أجواء تتسم بالمساواة وتكافؤ الفرص و...و...و 

ولكن ، هل عجزت الدولة بكل مؤسساتها وخبرائها ومراكز بحثها ودراساتها في ايجاد مقاربة أكثر نجاعة لدرء مخاطر الغش  وتجنب مضاره  والبحث في أسبابه ودواعيه .

  لماذا لا نجيب عن سؤال بسيط : لماذا يغش أو يحاول التلاميذ الغش في الامتحان ؟ وعندما نجيب بكل صراحة وبدون لغة خشب على هذا السؤال نكون قد قضينا على ظاهرة الغش ليس فقط في الامتحان بل وفي المجتمع ككل باعتبار المدرسة مجتمع مصغر .

نطلب من ابنائنا التلاميذ الإعتماد على أنفسهم خلال يوم أو بضع يوم من الإمتحان ،  في حين أنهم يعيشون منذ نعومة أظافرهم ومنذ سنواتهم الأولى في المقعد الدراسي الغش في أقبح تجلياته من تمييز و محاباة. ، فأمام اعينهم تعطى اعلى العلامات لمن يدفع أكثر ، و على مرآى ومسمع منهم ومن أهاليهم يتردد رهط من الأساتذة من كل صنف ولون على بيوت زملائهم من ابناء الجيران الميسورين لإعدادهم الإعداد الجيد ليوم الإمتحان. وامام اعينهم تنقل سيارات النقل المدرسي ابناء المتنفذين  الى المدارس الراقية حيث الامكانيات المادية  والبشرية وحيث يستفيدون من زمنهم المدرسي كاملا غير منقوص .فيما تجاوز   عدد التلاميذ بجل المدارس العمومية بكل فصل دراسي الطاقة الاستيعابية لقاعات الدرس ، وامام اعينهم تسند الفصول الى مدرسين يفتقرون لأي  تكوين بيداغوجي بل ان معايير اختيارهم املتها ظروف الحاجة .

وامام اعينهم  تزور الانتخابات وتباع وتشترى الذمم ، وأمام اعينهم. يصعد الىً البرلمان والى المجالس المحلية والجهوية والإقليمية. - بدعم من الإدارة ومن الشكارة من لم  يستطيعون حتى  تدبير شؤونهم وبالأخرى شؤون البلاد والعباد ! وامام اعينهم يتم الغش في بناء القناطر والطرقات والمؤسسات والمستشفيات ويتم تحويل التجهيزات والادوية الى جهات مجهولة  ، وامام اعينهم يصول ويجول الفاسدون ويرتقي في المجتمع بارونات المخدرات والمرتشون ....وأمام اعينهم تباع الشهادات الجامعية ونقط المراقبة الاستحقاق لمن يدفع اكثر ولو من شرفه ،وامام اعينهم تعج الأسواق بالسلع المزورة والمغشوشة ، وامام اعينهم يتسلم الدرك والشرطة الرشوة في الطرقات  للتستر على مختلف الخروقات .

فلم  يروا  فاسدا يحاكم  ليتخذوه عبرة ،لا  رِأوا مزورا يسجن  ليدركوا عاقبة التزوير . لا اعتقل  امامهم مرتشي ،ولا عوقب غشاش ولا وسيط ،كيف تطلبون من تلميذ ان يعتمد على نفسه وان يؤمن بشيء اسمه تكافؤ الفرص ومساواة وهو يصبح ويمسي على الغش والتدليس .   

       الا تساهم الدولة في الغش عندما تستعين بكل من هب ودب " لإكمال المقرر"  بسبب عدم توفر أساتذة مواد معينة أو بسبب عدم  اكتمال بناء مؤسسة أو  بسبب. بيئةً تربوية غير  سليمة - أو بسبب الإضرابات المتواصلة التي لا تتوقف الا لتبدأ ؟ هل تأكدت  الحكومة  وتحديدا الوزارة الوصية من أن التلاميذ قد تلقوا مناهجهم الدراسية كاملة غير منقوصة،    بعيدا عن التقارير والجداول المفبركة التي تشبه الى حد بعيد جداول الاحصائيات الإنتخابية ؟ هل قامت الدولة بكل شيء لصالح المدرسة ولم يبق لها غير محاربة الغش ؟  هل حاربت  الارتجال في تدبير شؤون هذا القطاع  ؟ هل اسندت مناصب المسؤولية بناء على الكفاءات ؟ هل توقفت عن استيراد الخرذة التربوية من الدول التي لا زالت تستعمرنا فكريا ؟ هل حاسبت ناهبي الملايير المرصودة للقطاع منذ الاستقلال المخطط الاستعجالي نموذجا .؟ 

هل تمتلك الدولة سياسة تعليمية مستقلة عن  املاءات  المؤسسات المالية الدولية التي تعتبر التعليم قطاعا غير منتج.

هل قارن وزير التعليم بين ما يتلقاه تلاميذ التعليم الخصوصي وأقرانهم في التعليم العمومي وبين ما يتلقاه ابناء الفيافي والقفار والجبال والاوعار  مع ابناء الأحياء الراقية ؟هل اطلع  على ظروف اشتغال بعض الأساتذة في البوادي وفي بعض هوامش المدن و معاناتهم وتلامذتهم مع الماء والغذاء والحيوانات الضارية والكلاب الضالة والحشرات السامة ؟ 

هل يعلم وزير التعليم –أما المربون فإنني اعلم أنهم يعلمون – أن التلاميذ يتعلمون  من خبرات الآخرين لانه أقصر الطرق لتحقيق الأهداف بنجاح. وفي تكنولوجيا التفكير، تسمى هذه الظاهرة بالتأسي، أو إتباع القدوة.

اعرف انكم تعلمون ولكن تتجاهلون  أن الفساد  المستشري في أوصال المجتمع  طيلة العهود السابقة بالإضافة إلى أن تردى الأداء المؤسسىفى مجالات التعليم والجامعات والثقافة والإعلام والأحزاب  قد حجم ,اقصى  وهمش  الأصوات والرموز البازغة فى حقولها المختلفة   و  لم يعد لذى التلاميذ والشباب بصفة عامة ذلك  المثل الأعلى الراسخ الذى يمكن أن يقتدى به؟  فلدينا اليوم مئات النجوم الرياضيين والراقصين والمغنين بل والمجرمين الذي تعج بهم ابواب المدارس ، ولم يعد التلاميذ والشباب يتحلقون حول رموز سياسية  و اجتماعية واقتصادية يمثلون القدوة والمثل الأعلى لهم ، ناهيك عن أن الكثير من رجالات الفكر والأدب والسياسة تركوا فراغا ملأه الغشاشون والوصوليون والكذابون والمنافقون  ،و هؤلاء هم قدوة التلاميذ ونجومهم .

سينبهي الامتحان وسينجح الناجحون   بعضهم بميزات جيدة جدا وبمعدلات عالية تقترب احيانا من الكمال ، بفضل ما توفر لهم من إمكانيات ، وسيلتحقون بالمدارس والمعاهد العليا التي تنتظرهم داخل وخارج الوطن ، بل ان مناصب شغلهم مضمونة وفي انتظارهم ، وسيحصل كذلك بعض العباقرة من ابناء الفقراء على شهاداتهم بميزات مماثلة وهم قلة ،ومنهم طبعا بعض الغشاشين الذين تفننوا في ابتكار وسائل غش لا تخطر على بال وآخرون ربما بتواطؤ .  وستحصل الأغلبية من الناجحين  على شهادة الباكالوريا بميزة مقبول ، بمعنى انهم اصبحوا  مقبولين ضمن جحافل  المطرودين مقبولون للانضمام الى صفوف العاطلين لان معدلاتهم  التي حصلوا عليها بعرق جبينهم لا تشفع لهم  . السوق غالي عليهوم .

الغش أيها السادة يحارب على مدار العام بل والأعوام قبل قاعة الامتحان ، والملتجئون الى الغش يعتبرون الامتحان مناسبتهم الوحيدة للانتقام لأنفسهم مما لحق بهم طيلة حياتهم الدراسية . لماذا لا يلجؤون الى الغش وهم ضحاياه بامتياز ؟لماذا لا يغشون ؟ وانتم تعلمونهم بأن المدرسة بتنوع وظائفها حلقة الوصل النموذجية،بين الفرد والمجتمع ،وأنه لا  يمكن عزل هذا الكائن / التلميذ عن وسطه وبيئته. وتدرسونهم بأن المدرسة  تتأثر و تؤثر . كما ترسخون في اذهانهم أن  المدرسة آلية أساسية لترسيخ ثقافة وقيم المجتمع ، وأنها / المدرسة نموذج مصغرا للحياة الاجتماعية .

    فلا يمكن ان تسود الديمقراطية في  المدرسة  والتلميذ يعيش بيع وشراء أصوات  الناخبين في المزاد العلني ، يستحيل ان نطلب من تلميذ  أن  يكون صادقا وهو يصبح ويمسي على الحقائق مزيفة تستعرض أمامه يوميا فى الإعلام وفي غيره  وكأنها حقيقة ساطعة . 

   كيف لا يكون التلميذ غشاشا و الغش بكل مظاهره ثابت ومستقر ومستشري من قديم الزمن فى كل مؤسساتنا وفى كل عملياتنا اليومية التى نجريها : الانتخابية والتعليمية والزراعية والاقتصادية والصحية والدينية والعدلية..و .و..و هلم جرا ، الغش ليس سلعا استوردناها بل اننا ننتجها ونتفنن فيها ونطورها ، وما غش التلاميذ أثناء الامتحانات إلا نتاج مدارسنا وبيوتنا وشوارعنا، وهو المنتج الوحيد الذى نكتفي منه ذاتيا ونصدر منه الفائض بامتياز. 

 إن  محاربة السلوكات السلبية وعلى رأسها الغش لا تتم فقط بالوعظ والإرشاد والوعد و الوعيد والتهديد بأوخم العواقب. بل ان المطلوب تغيير السلوكات القبيحة ومحاربة الظواهر السلبية وفي مقدمتها الغش الأولوية القصوى في حياة الجميع  لان الجميع مسؤولين على التنشئة الاجتماعية .

ان ما يفوح من روائح الفساد في صفوف الوزراء والبرلمانيين والمسؤولين والموظفين السامين وفي مختلف دواليب الدولة يشجع على الغش - فهذا وزير. متورط في اختلاس الملايير وإذا به يتربع  على ثاني كرسي في ترتيب كراسي الدولة ، وهذه تدعي الورع والتقوى وتظهر ماجنة هناك  أمام  الطاحونة الحمراء .... وهلم جرا.

وهذا كان " لاشيء " وبقدرة قادر اصبح من ذوي المال والجاه وهذا  استاذ جامعي يجزي العلامات بسخاء  مقابل لحظات متعة في السرير ، وهناك حديث عن بيع الشواهد الجامعية بالجملة والتقسيط ......  انواع شتى من الغش  لا يتسع  المجال لتعدادها لفظاعتها ولكثرتها. 

 

حاربوا الغش في انفسكم !  كونوا قدوة ! فالغش في الامتحانات ما هو الا حصاد ما زرعتم ! 



مولاي نصر الله البوعيشي