المهدي بن بركة يرفض مقترحا بسحب إذن صحافي ويقول إن الأمر موكول لضميره

تبدأ القصة، حينما تناول رئيس المجلس الوطني الاستشاري، المهدي بن بركة، الكلمة، ليعلن قراره بخصوص اقتراح لكتابة المجلس حول منع مراسل صحافي من حضور أشغال المجلس، إثر ما نشره من "أخبار عارية عن الصحة" بجريدته، حسب ما أفاد به في بداية الجلسة عضو من كتابة هذه الهيئة التمثيلية الاستشارية التي تعد أول تجربة يعرفها المغرب بعد نيله الاستقلال في المجال التشريعي.

وفي وقت كان غالبية أعضاء المجلس يتوقعون أن يصادق رئيس المجلس الوطني الاستشاري خلال إحدى جلساته في يونيو 1957 على هذا المقترح، اتخذ المهدي بن بركة، القيادي في حزب الاستقلال آنذاك، موقفا مغايرا فاجأ المعارضة (حزب الشورى والاستقلال)، قبل الأغلبية (حزب الاستقلال)، وذلك حينما عبر عن رفض المقترح المقدم بمنع المراسل من أداء مهامه الصحافية بالمجلس.

وعلل المهدي بن بركة قراره هذا بالقول: "إني لا أوفق على سحب الإذن، بل أتركه موكولا لضميره"، في إشارة إلى المراسل الصحافي، موضحا أن مسالة إعطاء الإذن بالدخول إلى المجلس لغير الأعضاء تدخل في نطاق اختصاصات الرئيس، ومنها اعتماد المراسلين الصحافيين، في وقت كان المسؤول عن ضبط عدد الأعضاء الحاضرين والغائبين قد وصف ما نشره مراسل جريدة "الرأي العام" من كون جلسات المجلس غير قانونية، لأن عدد من تغيبوا عن حضورها كان 26 عضوا، بأنه "كذب محض"، لأن عدد الغائبين من الأعضاء 14 فقط، وهو ما يجعل - حسب ما ينص عليه القانون الداخلي للمجلس- الجلسة قانونية لحضور أكثر من ثلثي الأعضاء؛ وبناء على ذلك اقترح منع مراسل الجريدة من حضور جلسات دورة المجلس.

غير أن المهدي بن بركة، رئيس أول تجربة استشارية تمثيلية يعرفها المغرب بعد الاستقلال، عبر عن اعتقاده أن "حرمة المؤسسة لا تقتضي أن يقوم بعض أعضائها بما لا يليق بمقامها، فإنها لا تقتضى أيضا أن يكذب عليها من طرف من يسمح لهم بالدخول للقيام بمهمة صحافية".

ولم يقف المهدي بن بركة عند حدود الموقف من الصحافي، بل استغلها مناسبة لتنبيه كافة أعضاء المجلس الوطني الاستشاري بضرورة التقيد بآداب وأخلاقيات الحوار والنقاش، وذلك اعتبار لكون مسؤوليته كرئيس تتطلب منه الدفاع عن حرمة المجلس وحفظ كرامته.

وفي هذا الصدد قال رئيس المجلس الوطني الاستشاري: "لن أستطيع الوقوف كصورة جامدة أمام أي تصرف وسلوك حاد عن ذلك".."لا أريد أن يفهم بأن رأي عضو خولت له عضويته حق الكلام هو رأي المجلس كله"، يضيف المهدي بن بركة في تعليقه على ما بدر من سلوك وكلمات غير لائقة من طرف أحد أعضاء المجلس، وأضاف موجها كلامه إلى كافة الأعضاء: "فإذا أردتم أن تكون لهذا المجلس كرامة وحرمة أستسمحكم في الدفاع عنها، وأنى لا أقبل مطلقا أن يأتي عضو من هذا المجلس ويحتقر بقية أعضائه بقول كلام قد استمعتم بأنفسكم كيف يسفه...إن لهذا المجلس حرمته في البلاد، وإن الدور الذي يلعبه في الدولة المغربية أكبر دليل على هذه الحرمة"، مسجلا أن المجلس الوطني الاستشاري يعتبر في الواقع خطوة كبرى في طريق الديمقراطية الحقة، "والتي سنصل إليها حين نصبح مجلسا منتخبا لا ينال شرف العضوية فيه إلا من منحه الشعب ثقته واختياره بكامل إرادته".

"في هذه الفترة الانتقالية يجب أن نبرهن بأننا لا نأتي لهذا المجلس لقول الكلام الوقح، بل نأتي لأداء رسالة والقيام بمهمة، فلكل واحد منا رسالة يجب عليه أداؤها بكل نزاهة وإخلاص، وإذا لم تكن تقدر هذه القيمة قلة قليلة من أعضائه فهو شعور الأغلبية الساحقة من هؤلاء الأعضاء"، يخلص المهدي بن بركة، رئيس المجلس الذي تأسس بمقتضى ظهير ملكي صدر في ثالث غشت 1956، ويختص في إبداء الرأي في ميزانيات الدولة العامة وفي استشارته في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتوجيه أسئلة شفوية مكتوبة إلى الوزراء.

ويحفل التاريخ الوطني لمرحلة ما بعد الاستقلال بالعديد من الأحداث والوقائع التي لم تحظ مع الأسف بما يكفي من الدراسة والبحث. هذه الأحداث لازالت مبعدة عن مجال البحث العلمي، خاصة منها ما يرتبط بتاريخ ومسار الإعلام، خاصة إذا كان من نافلة القول إن جانبا من تاريخ المغرب الراهن يعود الى صحافته.

ويرتبط حدث "الصحافة والمجلس زمن المهدي بن بركة"، صاحب النقد الذاتي، بعدد من الوقائع التي تكتسى رمزية ودلالات عميقة، ساهمت بطريقة أو أخرى في تشكيل وتطوير نسقنا السياسي الوطني لمرحلة بدايات الاستقلال، والتي لازالت ترخي بظلالها على واقعنا الراهن.

فتأسيس المجلس الوطني الاستشاري شكل في إبانه "حدثا عظيما للبلاد"، بل إنه من أهم الأحداث التي تمت في عهد الاستقلال في أفق التمتع بحياة نيابية، تمكن الشعب من تدبير الشؤون العامة في دائرة ملكية دستورية تضمن المساواة والحرية والعدل للأمة أفرادا وجماعات، حتى يتم خلق ديمقراطية بناءة، كما جاء في الخطاب الذي ألقاه المغفور له محمد الخامس في افتتاح أشغال المجلس الوطني الاستشاري الذي كان يضم 67 عضوا، يتم اختيارهم لتمثيل النزعات السياسية والمهن الحرة والمصالح الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وتجدر الإشارة إلى أن استلهام هذا المقال استند إلى ما تضمنه كتاب العصامي عبد الحي بنيس حول تجربة المجلس الوطني الاستشاري وسياقاتها الواقع في 350 صفحة، والذي يجمع بين دفته الظهائر والقوانين المؤطرة للمجلس والخطب الملكية التوجيهية والمداولات والمناقشات ونماذج من الأسئلة الشفوية والكتابية التي كانت تدور داخل قبته.

فرغم طبيعته الاستشارية-- يقول عبد الحي بنيس - في مستهل كتابه الذي يوجد ضمن أرشيفه الخاص، فإن المجلس الوطني الاستشاري الذي "اصطدم بصعوبات سياسية أدت إلى تجميده، شكل نواة حقيقية لمؤسسة النظام التمثيلي والديمقراطي"، موضحا أن الفكرة الرئيسية لمؤلفه استقاها من فكرة المهدي بن بركة التي عبر عنها في المقدمة التي وضعها لكتاب "المغرب على عتبة القرن العشرين" لصاحبه محمد الحبابي، والتي جاء فيها بالخصوص: "عندما يبدأ شعب يتكلم عن نفسه وماضيه فإنه يبلغ سن رشده".

إلا أن الغرض من هذه المساهمة ليس الوقوف فقط عند المقارنة بين أداء الهيئات التمثيلية بين الأمس واليوم، والعلاقات التي نسجتها هذه المؤسسات مع الصحافة خلال مختلف التجارب، وإنما المساهمة في حفظ ذاكرتنا الغنية، وهي المواضيع التي سيتم تناولها مستقبلا بشراكة وتعاون مع الباحث العصامي السيد عبد الحي بنيس، رئيس المركز المغربي لحفظ الذاكرة البرلمانية، الذي تحتوي مكتبته على أرشيف جد هام حول الحياة البرلمانية والسياسية والثقافية والفنية والاجتماعية، وهي في الحاجة إلى إعادة اكتشاف من لدن الباحثين والمهتمين، فضلا عن سلسلة الكتب التي أصدرها، والبالغ عددها 22 مؤلفا.

جمال المحافظ