إذا كان الاقتصاد الوطني قد استطاع أن يتجاوز بسلام تداعيات الأزمة المالية العالمية التي اندلعت سنة 2008، إلا أن ثمة مؤشرات توحي بعدم قدرة إستراتيجية النمو الاقتصادي المعتمدة حاليا على الاستمرار، نظرا: أولا إلى تدهور التوازنات الماكرواقتصادية، سواء على المستوى الموازناتي أو على مستوى ميزان الأداءات.. ثانيا إلى فقدان التنافسية الاقتصادية ارتباطا مع ارتفاع قيمة سعر الصرف الحقيقي وتكاليف الأجور.. ثالثا إلى انخفاض منتظم للنمو الاقتصادي.. رابعا إلى محدودية ارتفاع جودة اليد العاملة التي تحد من قدرة تكيف اقتصاد بلدنا، وخامسا إلى حجم البطالة المتفشية.

نتطرق في هذا المقال إلى مشكل قلة مردودية الاستثمار بشقيه العمومي والخصوصي مقارنة مع نسب النمو الضعيفة المحققة في المحور الأول؛ ونهتم في المحور الثاني بتحديد معالم سقوط الاقتصاد المغربي في فخ الدخل المتوسط وضرورة إعادة التوازن للنموذج التنموي لكي يرتكز أكثر على الإنتاجية.

المحور الأول: محدودية إنتاجية الاستثمار والرأسمال

منذ سنة 2000، عكس عامل العمل، ساهم تراكم الرأسمال بشكل كبير في النمو الاقتصادي تحت التأثير الإيجابي للمجهود الاستثماري المبذول، والذي يعد من أعلى المستويات في العالم، إذ قفزت حصة الاستثمار في الناتج الداخلي الخام من 25 بالمائة سنة 2000 إلى أكثر من 32 بالمائة سنة 2015؛ أي بمعدل 30 بالمائة من الناتج الداخلي الخام خلال الفترة كلها مقابل 25 بالمائة خلال التسعينيات.

فإذا ما اعتبرنا مجموعة من متكونة من ثلاثين دولة صاعدة نجد أن المغرب يحتل المرتبة الثالثة بعد الصين بـ41 بالمائة، وكوريا الجنوبية بـ31 بالمائة. في ما بعد يأتي ترتيب إندونيسيا بـ26 بالمائة، ورومانيا بـ24 بالمائة، وماليزيا بـ23 بالمائة، وتركيا بـ20 بالمائة.

هكذا يتبين أن بلادنا تبذل مجهودا استثماريا كبيرا من أجل تحقيق التقارب إلى مستوى هذه الدول. لكن المشكل رغم ذلك يكمن في ضعف أرباح الإنتاجية، لأن هذا المجهود الاستثماري لم ينعكس بالشكل المطلوب على أرباح الإنتاجية العامة وتسريع النمو الاقتصادي.

يبدو إذن أن أرباح النمو المحققة خلال سنوات 2000 تعد جد متواضعة وغير متوازية مع وتيرة تراكم الرأسمال. والمفارقة أننا نجد دولا تحقق نسب نمو متقاربة مع مثيلاتها في المغرب بحوالي 4.3 بالمائة، لكن بمجهود استثماري أقل بكثير يناهز 20 بالمائة؛ في حين أن دولا أخرى، عكس ذلك، حققت معدلات نمو تفوق 5 بالمائة وبمجهود استثماري لا يتجاوز 25 بالمائة فقط.

نستخلص إذن أن نموذج النمو المغربي المعتمد على الطلب أو على الرأسمال المادي في شكل بنيات تحتية يؤدي إلى أرباح إنتاجية قليلة. وهذا معناه أيضا أن اقتصاد بلدنا لم يستطع تحقيق تقدم مرض رغم إرساء الإصلاحات البنيوية المعتمدة والانفتاح الاقتصادي وتحسين محيط الأعمال والتكنولوجيات المستوردة وتحسن مستوى تمدرس الساكنة.

وبالرجوع إلى التجارب الدولية فإنه لا يمكن الاعتماد فقط على تراكم الرأسمال من أجل استدراك التأخر في النمو والتنمية، نضرا لما يتطلبه من ادخار ومن استثمار مرتفعين دائما يصعب تمويلهما على المدى القصير. ولكن المحدد الحقيقي هو القدرة على تحقيق الإنتاجية العامة.

إن مرد هذه المفارقة في النموذج التنموي الحالي إلى ضعف الإنتاجية العامة لعوامل الإنتاجية، وذلك في كل القطاعات الاقتصادية، وكذا انعكاساتها الهامشية في ميدان خلق الشغل المؤهل والجيد والابتكار؛ فالمستثمرون يحصلون على مردودية أكبر للرأسمال المستثمر في قطاع النسيج بنسبة 191 بالمائة، وفي قطاع الفلاحة 130 بالمائة، رغم أن هذين القطاعين يعرفان استثمارا ضعيفا بالمقارنة. أما الاستثمارات التي بإمكانها تسريع النمو الاقتصادي فهي مركزة في قطاعات لا تخلق القيم المضافة، نظرا لكونها قطاعات مستعملة للمواد المستوردة بحجم كبير، ممثلة في الاستثمارات التكنولوجية (كالسيارات والطيران وقطاع الإلكترونيات).

وتنتج عن المفارقة الأولى مفارقة ثانية تتجلى في غياب التحويل البنيوي للاقتصاد وضعف تصنيعه، وكذا هيمنة الرأسمال في حصة القيم المضافة بنسبة 76.8 بالمائة مقارنة مع 23.2 بالمائة للعمل. ومن جهة الإنتاج فإن تحليل التوزيع القطاعي للقيم المضافة يبين هيمنة الخدمات عليها منذ بداية الثمانينيات. أما الاستثمارات فلم تعرف تنوعا، إذ تركزت خصوصا في القطاعات الميكانيكية وقطاع البناء والأشغال العمومية، وهي قطاعات مستعملة للاستهلاكات الوسيطة المستوردة بكثافة. هكذا لم تتطور حلقة القيم المضافة.

أما المفارقة الثالثة فتكمن في ضعف ديناميكية القطاع الخاص والخصاص في المقاولات الصغيرة ومتوسطة الحجم كمكون أساسي للقطاع الخاص؛ وهو ما يشكل موطن قوة لاقتصاديات دول مماثلة كتونس وتركيا. أما باقي الاقتصاد فهو مشكل من مقاولات ذات أنشطة غير منتجة (خصوصا في القطاع غير المهيكل) تتميز بالربح الضعيف.

المحور الثاني: سقوط الاقتصاد المغربي في فخ الدخل المتوسط

لقد سبق أن أشرنا في جذاذات سابقة إلى أن الإنتاجية العامة لم ترتفع في المغرب منذ السبعينيات، ما أجبر الحكومات المتعاقبة على الاعتماد على الطلب الداخلي من أجل دعم النمو. كما أن الارتفاع الملحوظ في النمو الاقتصادي المحقق منذ سنة 2000 يجد تفسيرا له في تراكم عامل الرأسمال، باعتبار نسبة الاستثمارات التي تحققت في شكل مشاريع وبنيات تحتية ضخمة ممولة من طرف الصناديق العمومية، والتي ناهزت 34 بالمائة من الناتج الداخلي الخام سنة 2015. وبما أن هذا التراكم في الرأسمال لم يوازيه تحسن ملموس في الإنتاجية العامة لعوامل الإنتاج فإن هناك احتمالا كبيرا لانخفاض النمو الاقتصادي وسقوط الاقتصاد المغربي في ما يعرف في أدبيات الاقتصاد بفخ الدخل المتوسط.

ولهذا فبلادنا مطالبة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بإعادة النضر في نموذجها الاقتصادي، لتكون أهم ركائزه الرفع البنيوي من الإنتاجية العامة.

ومن جهة أخرى، لقد بينت التجارب الدولية تاريخيا أن الدول التي استطاعت تحقيق نسب نمو قوية ومستدامة وبدون أن تسقط في فخ الدول ذات الدخل المتوسط هي الدول التي حققت أرباحا مهمة في الإنتاجية.

إن الضعف القاتل لأرباح الإنتاجية في الاقتصاد المغربي هو الذي يستدعي القلق ومراجعة النموذج التنموي لبلدنا؛ فما بين سنة 1970 و2011 لم يستطع الاقتصاد تحقيق إلا أرباح إنتاجية سلبية بناقص 0.05 بالمائة سنويا. أما إذا اعتبرنا سنوات 2000 فإن أرباح الإنتاجية عرفت ارتفاعا طفيفا جدا وموجبا ناهز 1.2 بالمائة، وهي نسبة غير كافية لدعم النمو الحالي.

وبدون شك فإن ما يميز تراكم الرأسمال المادي في المغرب ومردوديته هو أن المجهود الاستثماري مصدره أساسا القطاع العام؛ فمنذ سنة 2005 بفضل التزام السلطات العمومية بإنجاز مشاريع البنيات التحتية والتجهيزات الأساسية ارتفعت حصة الاستثمار العمومي إلى 50 بالمائة من مجموع الاستثمارات في المغرب.

وقد اختلف تفاعل جل القطاعات في الاقتصاد أمام الابتكار وأرباح الإنتاجية العامة؛ فقطاع السلع القابلة للتبادل مجبر على مجابهة التنافس الدولي، لهذا فهو مجبر على الابتكار من أجل الاستمرار والتواجد عكس قطاع السلع غير القابلة للتبادل، كالإدارات والبناء والمطاعم والفنادق...الخ، فهي قطاعات ريعية ومحمية ومربحة، لكن لا تؤدي إلى تحقيق أرباح الإنتاجية العامة بشكل مهم.

وقد باتت القطاعات الريعية تعرف إنتاجية عمل ظاهرة ضعيفة؛ فما بين سنة 2000 و2012 حقق قطاع البناء إنتاجية عمل ظاهرة ناهزت 1 بالمائة، وقطاع الفندقة والمطاعم ناقص 0.5 بالمائة، وهي القطاعات التي تعرف خلق مناصب شغل مهمة وصلت إلى 570000 منصب شغل في هذين القطاعين لوحدهما، أي نصف أعداد مناصب الشغل الإجمالية التي ناهزت 1.1 مليون منصب، بدون احتساب مناصب الفلاحة. أما في قطاع الفلاحة فقد تحققت نسبة 7.5 كإنتاجية العمل و4.5 بالمائة في قطاع النقل والاتصال...وهي للتذكير قطاعات معرضة للتنافس الخارجي.

هكذا نستخلص أن محاولة تجنب الاقتصاد المغربي الوقوع في فخ الدخل المتوسط تتطلب تحسين الإنتاجية العامة لعوامل الإنتاج. ولتثبيت الأفكار يتعلق الأمر بالإنتاجية المتأتية من مصادر مختلفة غير حجم العمل والرأسمال. وقد بينت التحاليل المتعلقة بالنمو الاقتصادي على المدى المتوسط والبعيد أن الإنتاجية العامة لعوامل الإنتاج تشكل العنصر الأساسي الذي يفسر التقارب الاقتصادي نحو الدول الصاعدة؛ وما يؤكد ذلك أنه عند تفحص الاقتصاديات التي نجحت في تجنب فخ الدخل المتوسط نجد أنها نفس الاقتصاديات التي استطاعت أن تخلق أرباحا مهمة في الإنتاجية، على عكس الدول التي سقطت في هذا الفخ، فهي عانت من كساد في النمو الاقتصادي ومن تقلص الإنتاجية العامة لعوامل الإنتاج.

والحل بالنسبة للمغرب هو القيام أولا بقطيعة مع النموذج القديم وانخراط فوري للاقتصاد المغربي في سيرورة تحويل اقتصادي بنوي عن طريق استيراد مكثف للتكنولوجيات وعصرنة اقتصاده وكذا سيرورة تقارب سريعة؛ وهو ما يتطلب فرض قطيعة مع الإستراتيجيات والسياسات المتبعة في الماضي.

إن من شأن هذا التصور أن يرفع في الإنتاجية العامة، وهو ما يتطلب ثلاثة أمور: الأول هو الاستثمار في الرأسمال اللامادي الكفيل برفع مردودية الاستثمار والشغل، وثانيا تغيير الإستراتيجيات التنموية القطاعية، خصوصا تلك المتعلقة بالصناعة، وثالثا: ما دام مشكل المغرب هو مشكل اقتصاد سياسي فيجب محاربة الريع في القطاعات المحمية، وهو ما يتطلب إرادة للنخبة السياسية المغربية.

إن الأرباح الإضافية لا يجب أن يكون مصدرها الاستثمارات المادية، رغم أهميتها، فقط، وإنما التراكم في الرأسمال اللامادي في شكل رأسمال بشري ومؤسساتي واجتماعي. إنه التحدي الكبير الذي يجب مجابهته عن طريق الرفع من الإنتاجية العامة عن طريق الابتكار وتبني التكنولوجيات الحديثة وإعادة انتشار عوامل الإنتاج الضرورية من أجل الرفع من الإنتاجية العامة؛ وهي عوامل تتأثر مباشرة بالسياسات التي تهدف الرفع من الرأسمال البشري وجودة المؤسسات وكذا الرأسمال الاجتماعي.

 

د.محمد كريم