1) سبق وتحدثنا عن البعد التوحيدي مجملا وكذلك عن لغة التوحيد ومبدأ ارتفاع النقيض في الصيام كأهم محطات لفهم هذا الركن من الإسلام فهما متساميا يليق بمقامه ويستخلص منه دروسا وعبرا في الحياة ومناهج التربية والتكوين.

ولكن مع هذا لم نكد نلج برفق إلى العمق المنشود الذي هو محور المحاور ومطواة لأوهام كل حائر ومتردد فاتر .وهذا المبتغى يتمركز عند التوحيد العقدي الذوقي والجمالي في الصيام والذي بدوره قد يربطنا بمبدأ ارتفاع النقيض كما أشرنا قبل.لأن الصوم في مظهره جلال ومكابدة وصبر وترقب وانتظار ،ومنع وصرف وحرمان مؤقت وضبط للنفس وسهر وقلة نوم ...وهذه كلها قد تندرج ضمن قائمة الجلاليات التي جاءت بأمر رباني ولحكمة لا يعلمها إلا هو " وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ".

" فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ".

فالتسليم مع الرضا هو مفتاح تحول الجلال إلى جمال،وهذا ينبني على عقيدة راسخة بمصدر التشريع وحب التقرب إليه بالرغم من العوارض والقوارض والمنغصات والممرغات.كما أن هذا التحول في حد ذاته يمثل بعدا توحيديا على مستوى الوجدان وذوق العرفان " وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ"

ومن هنا فقد جاء الخطاب ،عند الأمر بالصوم ابتداء، موجها إلى المؤمنين لا غير ،ورابطا بين السابقين واللاحقين على اعتبار أن العقيدة لا تتغير ولا ينتقص من قيمة المعتقد والمعتقد فيه بتبدل الأحوال وتعاور وترادف الأزمنة والأمكنة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ".

وعند هذه الأقدمية والاستمرارية التي عرفتها فريضة الصيام في رمضان عبر العصور يكون قد أخذ صورة عدم قبول النسخ الذي يعني الإزالة الجوهرية للحكم وأركانه.

وهذه الصفة أساسا قد تنطبق على عقيدة التوحيد كما هو معلوم بالدين والضرورة" "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ "،"وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ".

فالمرسِل لا يتغير ورسالته لا تبدل والرسول من جنس المرسَل إليهم سواء لدى السابقين أو اللاحقين.ولهذا فمصطلح "من قبلكم"تأكيد على أن الأساس العقدي للصوم هو المعتبر في هذه العبادة وأن جوهرها غير قابل للنسخ والإزالة.

وهذا الاستنتاج قد يتفق عليه جل علماء الأمة ولكن كل له مقام .بحيث قد يبقى السبح لديهم عند الشاطئ ولا يستطيعون الغوص في الأعماق لاستخراج الجواهر واللآلئ،وقد حق لهم الوقوف عند الساحل إن هم لم يكونوا من السباحين الماهرين.،ولكن لم يحق لهم أن يحصروا المعنى في فهمهم ويضيقوا الآفاق على من تتوق نفسه إلى استجلاء الحقائق وسبر الأعماق.

يقول أبو حامد الغزالي بخصوص التدرج المعرفي:"واعلم أن أكثر أفعال الله وأشرفها لا يعرفها أكثر الخلق بل إدراكهم مقصور على عالم الحس والتخييل وأنهما النتيجة الأخيرة من نتائج عالم الملكوت وهو القشر الأقصى عن اللب الأصفى ،ومن لم يجاوز هذه الدرجة فكانه لم يشاهد من الرمان إلا قشرته،ومن عجائب الإنسان إلا بشرته ..."جواهر القرآن ص12.ويقول:"للتوحيد أربع مراتب ، وينقسم إلى لب ، وإلى لب اللب ، وإلى قشر ، وإلى قشر القشر ... فالرتبة الأولى من التوحيد : هي أن يقول الإنسان بلسانه لا إله إلا الله وقلبه غافل عنه ، أو منكر له ، كتوحيد المنافقين. والثانية : أن يصدّق بمعنى اللفظ قلبه كما صدّق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام. والثالثة : أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق ، وهو مقام المقربين ، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة : أن لا يرى في الوجود إلا واحداً ، وهي مشاهدة الصديقين ، وتسميه الصوفية : الفناء في التوحيد ، لأنه من حيث لا يرى إلا واحداً ، فلا يرى نفسه أيضاً ".

وقد يتوهم الكثير توهما ما حينما يقرءون هذا التقسيم فينكرونه وذلك تعصبا وتضييقا للمعنى بأن الدين ليس بذي مراتب،وهذا مردود عليهم بالنص أيضا حيث نجد في القرآن الكريم تقسيم المعتقدين الموحدين إلى مقربين وأصحاب اليمين وإلى صديقين

وصالحين وغيرهم.كل هذا إشارة إلى أن الفهم قد يتفاوت والمعنى قد يتسامى بين فئة دون أخرى.لكن المراتب هنا تتعلق بالمعتقِد لا بالمعتقَد فيه أو وجوهر العقيدة.

2) فالصوم قد يعتبر أقرب عبادة لفهم معاني التوحيد الخالص لله تعالى وذلك بحسب معطى النص وبعده الذوقي فنجد قول الله تعالى:" وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ".

وعند ترتيب الأولويات نجد الأحاديث المنظمة لها حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم " الصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمَانِ ، وَالْيَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ" "و"الصوم نصف الصبر".كما ورد في كتب الحديث.

وهذا يبين لنا أن الاستعانة بالصبر ،قبل الصلاة في الآية، المقصود منها الصوم لأنه ميدان الصبر والتحمل واللبنة الأساسية لترسيخه في النفوس ترسيخا عمليا اختباريا وليس مجرد نظرية عابرة أو توصية وحكما قابلا للتأويل.

ومن هنا كان للصوم رفعته العقدية والتوحيدية التي لا يضاهيها عمل أو عبادة.وهو يندرج ضمن المواصفات التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث" الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ بين السماء والأرض، والصلاة نور،والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك.كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها"رواه مسلم.

2) وعن مفهوم الضياء وقيمته العرفانية يقول الشيخ محيي الدين بن عربي:" ولما كانت الشمس ضياء يكشف به كل ما تنبسط عليه لمن كان له بصر فإن الكشف إنما يكون بضياء النور لا بالنور فإن النور ما له سوى تنفير الظلمة بالضياء يقع الكشف وإن النور حجاب كما هي الظلمة حجاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق ربه تعالى "حجابه النور" وقال "إن الله سبعين حجاباً من نور وظلمة أو سبعين ألفاً وقيل له صلى الله عليه وسلم أرأيت ربك فقال صلى الله عليه وسلم "نور أنى أراه" فجعل البصر الذي هو الصوم والحج ضياء أي يكشف به إذا كنت متلبساً به ما تعطيه حقيقة الضوء من إدراك الأشياء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى أنه قال "كلّ عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" وقال صلى الله عليه وسلم لرجل "عليك بالصوم فإنه لا مثل له" وقال تعالى "ليس كمثله شيء" فالصوم صفة صمدانية وهو التنزه عن التغذي وحقيقة المخلوق التغذي فلما أراد العبد أن يتصف مما ليس من حقيقته أن يتصف به وكان اتصافه به شرعاً لقوله تعالى "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" قال الله له "الصوم لي لا لك" أي أنا هو الذي لا ينبغي لي أن أطعم وأشرب وإذا كان بهذه المثابة وكان سبب دخولك فيه كوني شرعته لك فأنا أجزي به ،كأنه يقول وأنا جزاؤه لأن صفة التنزه عن الطعام والشراب

تطلبني وقد تلبست بها وما هي حقيقتك وما هي لك وأنت متصف بها في حال صومك فهي تدخلك عليّ فإن الصبر حبس النفس وقد حبستها بأمري عما تعطيه حقيقتها من الطعام والشراب فلهذا قال للصائم فرحتان فرحة عند فطره وتلك الفرحة لروحه الحيوانيّ لا غير وفرحة عند لقاء ربه وتلك الفرحة لنفسه الناطقة أي لطيفته الربانية فأورثه الصوم لقاء الله وهو المشاهدة فكان الصوم أتم من الصلاة لأنه أنتج لقاء الله ومشاهدته والصلاة مناجاة لا مشاهدة"الفتوحات المكية.

فالصفة الصمدانية هاته مستخلصة من سورة الإخلاص التي فيها لب التوحيد :" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ،لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ".وتعريف الصمد لغة:

الصمد:المقصود لقضاء الحاجات.شيء صمد:مصمت لا جوف له.الصمد:اسم من أسماء الله الحسنى،ومعناه السيد المطاع الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد،المقصود إليه في الحوائج فلا يقضى دونه أمر،الدائم الباقي بعد فناء خلقه.

و يقال في معنى إنساني:رجل صمَد،المتجلد في الحرب الذي لا يعطش ولا يجوع أثناءها.ومن جاء مصطلح الصمود الذي يعني المقاومة التي كلها صبر ومصابرة وتحدي للصعوبات.

إذن فالصوم الذي هو نصف الصبر سيكون أعظم مركبة للصمود والتطلع إلى فهم معنى الصمدية من صفة الله تعالى باعتبارها الغنى المطلق له .

وحينما يصوم العبد بهذه النية من خلال التخلي عن شهواته المادية والمعنوية ولجم نفسه وكبت نزعاته يكون قد أشرف على الحرية المطلقة والتي في حد ذاتها غنى لا يبقى معه حينئذ سوى تحقيق العبودية الخالصة والفناء في حب الله تعالى والشوق إلى لقائه والفرح به كما دلت عليه الآيات والأحاديث. فهو لا مثيل له في الظاهر بحكم صومه الذي يعني الإمساك والامتناع الذي هو سلبي مطلق ،لأن المخفي لا يقاس عليه طالما أنه ليست له دلالة خارجية تمثل وسط القياس أو الحد الأوسط.وحيث إنه كذلك فإنه سيرتفع ويرتقي بحكم خصوصية عمله الذي" لا مثل له" في الظاهر وسيرى نفسه فقيرة إلى الحق غنية عن الخلق، فيتأهل حينها لمناجاة الذي:"ليس كمثله شيء "ظاهرا وباطنا ،فيكون تجريد العبد وظيفة هو الوسيلة لفهم تجريد الحق وتنزيهه صفة وذاتا وأفعالا.قد تتحق فيه المقولة المأثورة:"عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي" و"من عرف نفسه عرف ربه".



محمد بنيعيش