يحق لي أن أغضب، فأنا كذلك رغم أني أمقت الاستبداد والظلم الذي يمارسه الحكام العرب على شعوبهم الضعيفة، لا أقبل أبدا أن يهان ملك السعودية بالشكل الذي صارت عليه حماقات ترامب وهو يخاطب جماهيره بكم هائل من عبارات الإذلال والسفه والاحتقار.

ما الذي يمنعني من إشهار عروبتي وإسلاميتي، فكري اليساري الحر الشجاع، انتمائي لأمة اللغة العربية؛ لغة القرآن؟ إنه أقل ما يمكن تقديره قيميا وأخلاقيا في مثل هذه النكبة السخيمة التي فتكت بوجودنا وانكسارنا!

آسف جدا لأني لا أملك غير قلب موجع وكلمات منحوتة بآلام وأوجاع وطن عربي منهك متشرذم منخور، تكالبت عليه الضباع وعقارب الغدر، وتقاذفته الأطماع من كل جانب؛ وتعاركته الإيديولوجيات ومعاول الهدم من نظريات الاقتصاد العولمي وسوق الأسلحة وإقطاعيات التبعية والمسخ.

غير أن ما يخفف من وطأة هذا الانهزام السيكولوجي الداهم؛ الرفض الشعبي العربي المشرف لتكريس هذا النوع من الحروب النفسية التي تروج لها آليات الاستعمار الأمريكي والغربي على السواء، في ظل صمت رسمي قاتل من قبل الأنظمة العربية الخانعة المستكينة.

لقد بدا خلال قراءة أولية لردود الأفعال الصادرة عن مجموعات نشطاء المواقع الاجتماعية المتفاعلة مع الحدث إياه، أن الوعي الشبابي ومنطقه التحليلي الرزين كان أقرب من اللهجة الغوغائية التي تعتمد على الصراخ والسباب والشتائم في التعبير غير الديبلوماسي، الخالي من أدبيات الخطاب وشروطه المعمول بها.

وعلى الرغم من حالة الاحتجاج التي انتابت معظم التدوينات تجاه ما سمي بالضعف والشرود العربي تجاه قضايا الخلافات المضمرة في خطاب ترامب، من قبل حماية الفساد والاستبداد والجنوح نحو دعم مظاهر الانقسام وتشجيع المواجهات الحربية بين الاقطار العربية كما هو الحال بالنسبة لليمن وسوريا وليبيا والعراق، فإن ثمة وازعا أخلاقيا وسوسيوسياسيا يفرض النظر في مآلات توجيه هذا النوع من التشويه الأيديولوجي والحضاري المقصود ليصير طعما للتحوير والمماحكة وتعرية الحقائق.

وهو الأمر الذي انطلى على نخب من الانتلجنسبا العربية المغامرة تحت يافطة الغرب المتنور والحضاري. حيث تكاد تختفي نبرات النقد الواعي والمحايد لمثل التطرف الذي يعلن عنه اليمين الغربي الحاقد دون تحفظ.

ويصير الانقلاب الداخلي للنخب العربية كعصا موسى التي تشق الصفوف وتهتك الحجب الباقية في حمأة الوجع المتواصل والانهيار المتلاحق لفقدان الهيبة والهوية الشخصية للدولة وقيمها النضالية والتاريخية.

المثير أن الحرب النفسية الحديثة التي تستعملها الولايات المتحدة بلسان ترامب تنبهنا الى أن الصراع الفكري، حيث العقيدة والمبدأ أو ما يعرف بالأيدولوجيا جزء لا يتجزأ من الحرب على قاعدته، تشن الأنظمة العالمية الجديدة بها حربا شرسة تجعل من أهم رهاناتها ترويع الشعوب وتدجين العقول ولي الإرادات وتثبيط الأعمال وخلخلة المواقف وتأليب الثائرين ضد الحكام وإشعال النيران من كل جانب، بطرق مختلفة شتى، بالبروبجندا والمال والعتاد وكل السبل الكفيلة الحاسمة بتعميق الفتن والأزمات. .

وهي الحرب التي يمكن وصفها بحرب الاستنزاف النفسي والسيكولوجي، تتقاطع فيها أساليب التخويف والترويع، وتغطية كوابيس الأنظمة التي تمني كراسيها وعروشها بالخلود والبقاء الأبدي. ولعمري إنها سقطة المستبد؛ استبداد الجهل على العلم، واستبداد النّفس على العقل، ورحم ألله الكواكبي اذ قال "الاستبداد يد الله القويّة الخفيّة يصفع بها رقاب الآبقين من جنّة عبوديّتهِ إلى جهنّم عبوديّة المستبدّين الّذين يُشاركون الله في عظمتهِ ويُعاندون جهاراً. والظّالم سيف الله ينتقم به ثمّ ينتقم منه)، ومن أعان ظالماً على ظلمهِ سلّطهُ الله عليه.

مصــطفى غَــلْمَـان