هنا القاهرة... لحظات... قبل النزول، صباح الخير يا قاهرة... من هنا من الأعلى... من الأعلى أطل عليك أنت البهية القاهرة، اللذيذة. كل أمكنتك أراها من الأعلى، هنا النيل، وهل من قاهرة دون نيل؟، علمونا أن مصر هبة النيل، وقيل وبلغة سيميولوجية وفي سياقات ثقافية أخرى، إن النيل هبة مصر، هنا مياهه تتدفق نحو الريف المصري والفلاح المصري (الكذع)، عاشق الأرض والقطن، هنا زوجته تحضر له فطوره، وهي تبتسم ابتسامتها الحلوة، أسمع همساتها، تشحنه بها، فيزداد خصوبة وتخصيبا للأرض والزمان والمكان وتكتمل "يوميات نائب في الأرياف" والرحمة لمن وقعها الجميل توفيق صالح. هناك، مسكن نجيب محفوظ، وبجانبه تلك الدروب الشعبية التي تغنى بها في روايته، التي طارد بها "اللص والكلاب"، وبالقرب منها مقهى الفيشاوي، وبجانبها سيدنا الحسين و"عيش" شعبي يباع من أجل اليمن والبركات، وفي الجهة الأخرى مقهى أم كلثوم، و"حسيبك للزمن"، إن لم تعجبك، مهما كان عمرك، ومهما كان ذوقك، وداخل هذه المقهى ستجد رايات العرب، في زمن "اللاعرب"، وفي عمق المقهى ستجد كرسيا كانت تجلس عليه سيدتنا أم كلثوم، وإذا توغلت هناك، ستجد أهرامات مصر، شامخة تحتضن كل من زارها...

نعم، صباح الخير، يا قاهرتنا جميعا... من هناك، نعم من هناك، مر المنفلوطي، وتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد، وهناك، كان يسكن الشيخ إمام، وفؤاد نجم، انظر إلى الجهة الأخرى، ستجد مسكن العندليب عبد الحليم حافظ "زي الهوى"، وبجانبه امرأة مصرية جميلة ما زالت تصغي إلى "قارئة الفنجان" لعل حظها يمكن أن يكون ممتعا في زمن ما.

انظر إلى هناك، حيث الناس يحكون "حدوثة مصرية" بعدما رحل عنها صاحبها يوسف شاهين رحمه الله، و"بص" أمامك ستجد مقاه عديدة ودخان "شيشة" وحديث في السياسة، هذا مع هذا وهذا ضد هذا، وكل واحد "يلعن أبو الدنيا" إذا رفضت رأيه، وفي الليل توحدهم "ليالي الحلمية". دعونا من حديث السياسة، والله لا أحبها ولنعد إلى حلاوة النيل وحلاوة أهله...

"بص" مرة أخرى هناك، في هناك كان يجلس العم صلاح أبو سيف وهو يكتب سنة 1968 "القضية 68". وفي الشارع الآخر، كان يجلس داوود عبد السيد (ولنا نحن في مغربنا داوود أولاد السيد)، ويكتب "الكيت كات" وشيخنا الجميل الذي كان يرصد "شعرية" التفاصيل المجتمعية.

وإذا التفت إلى يسارك، ستجد "عيون القلب" ما زالت كما هي، تهزك من أحشائك، وإن لم يقع، فعليك السماع والنظر لعيون نجاة الصغيرة، لعلها شفاء لبصرك وبصيرتك. حلوة، أنت أيتها القاهرة، وما أحلاك بلوني الأبيض والأسود، في زمن "المخدوعون" للراحل توفيق صالح، ورحمة الله عليه مرة أخرى. حلوة أنت، حينما تبتعد عنك السياسة السياسوية. لقد خلقت للمعرفة والجمال، ومرت منك أقوام، وتاريخ كبير صنع في أحضانك ولا يزال...كلما زرتك ارتعشت ذاكرتي بما قرأت من روايات ودراسات ومؤلفات، كتبت في جوف ليلك ونهارك.

شامخة أنت من هنا، هنا الأعلى ومن هناك حينما نزورك ولا نجد بين شفتيك إلا كلمات من قبيل "تفضل يا أفندم"… عريقة بمياه نيلك وكتاباتك...شامخة رغم الداء والأعداء...عربية الهوى، ولا عروبة بمعزل عنك... فكيف لا نصاب بعشقك ولا نصورك من الأعلى والأسفل والجانب الأيمن والأيسر، ومن الوسط والأمام... إنك بهية جميلة، ليلك كنهارك...يزداد العشق فيك وبك ولك.

في أحضان بيوتك وعلى ضفاف نيلك، حكيت الحكايات، وبقيت خواتمها أفقا مفتوحا كما هو في الصورة، حيث بياض النهار يمتزج بسواد الليل، ومن تم ولادة حكاية جديدة...حفتك ألوان بهية في الصورة، جعلتنا نتلذذ زمنك ومكانك، ونفكر في الرحيل إليك، وطرح السؤال هل من حيلة نمتطيها للسير إليك والتقاط صورة مثل هاته؟.

كيف لا يصورك وهو على وشك النزول، ربان طائرة مغربية، عشق الانزياحات الشعرية في كل شعر وسفر وترحال؟. ماذا لو لم يلتقطك من الأعلى...وهو المهووس بالجمال الباحث عنه بصمته الجميل، إذ لا يكاد يرتفع صوته إلا في قراءاته لقصائده الشعرية الجميلة...؟.

حلوة أنت القاهرة، وحلو صديقي الربان سي محمد بلقس الذي سميته بالشاعر الطائر...

لحظات وتحط بنا الطائرة، أنتم في القاهرة ودرجة الحرارة خارج الطائرة تساوي... نتمنى أن تكونوا قد استمتعتم برحلتنا هاته.

الحبيب ناصري