1) كلما أقبل شهر رمضان المبارك إلا وكثر الحديث عن حكمه وأحكامه وفوائده وشروط صيامه ،حتى إنه قد أصبح يمثل محطة رئيسية للتغيير النفسي والسلوكي والاجتماعي بامتياز .كما أن تعريفه القار والمار والمكرر لا يعدو غير الإمساك عن الشهوتين الرئيسيتين المفطرتين ،أو:الامتناع عن الأكل والشرب وكل شي يبطل الصيام من طلوع الفجر حتى غياب الشمس.

وحتى تعريف الشهوتين قد يكرر بأسلوب مستهلك ،وفي مجامع مختلطة ،رجالا ونساء،ومن غير كناية، يشير في غالب الأحيان إلى الآلتين الموظفتين له وليس إلى جوهر الفعل وبعده الكلي تساميا وإجمالا متغشيا.تماما كما قرأت عند لافتة أحد المطاعم يحث صاحبها الزبناء ب:أشبع بطنك!وذلك برسمه صورة كاريكاتورية يتناول صاحبها رغيف خبز طويلة...

في حين أن الشهوتين المذكورتين لهما بعد وجودي أوسع معنى وأسمى وظيفة وأدق حكمة وهي :غريزة البقاء وغريزة النوع، اللتان عليهما مدار السلوك ومنهما المنطلق نحو الآفاق والتخلص من طابع الحيوانية والنباتية ،مرورا بالمنافسة الاجتماعية، إلى المقامات العرفانية التجريدية تطلعا للتشبه بالملائكية والروحانية المتسامية، حيث التنزه عن

الاستعباد المادي والتحرر منه في مقابل العبودية الروحية والخضوع لله تعالى وتحقيق الحرية المطلقة للعبد من جميع النوازع والحواجز المكبلة له.

كما أن كل واحد أو جهة وصاحب تخصص ومذهب ،وطبلة ومزمار ،وتجارة وأشعار، إلا وينتهز الفرصة في هذه الفترة ليدلي بدوله حول الطريقة المثالية لاستقبال هذا الشهر الفضيل ،وخاصة لدى المسلمين ،وبالأخص في البلدان الإسلامية ،بل قد طال الاهتمام به حتى لدى غير المسلمين ممن يجاورونهم أو يتعايشون معهم في هذا البلد أو ذاك ،وذلك عبر جميع القارات وشتى القنوات.وهذا في حد ذاته ومنذ البداية،ومن غير أن ننظر له أو نعترض عليه يمثل بعدا توحيديا عالميا للصيام في الإسلام ،سواء تفطن له الغير أم لا، أراده أم لم يرده.وذلك لسبب بسيط ومثير في نفس الوقت وهو: أن الصوم يمثل عملية نفسية فسيولوجية صحية هي القاسم المشترك بين جميع البشر الذين يمكن لنا أن نعرفهم مجازا ومبدأ: بأنهم كائنات أحياء ينمون ويتغذون ويسعدون ويتأذون بحسب مداخلهم ومخارجهم ،متقبلاتهم ومرفوضاتهم،مباحاتهم وممنوعاتهم.

وحينما يصوم المسلمون فتلك هي وحدة الشعور وهذه هي تقوية الإرادة وهذا هو الصبر وتكسير الغرور.و أيضا فهي مسألة مشتركة بين الناس جميعا سواء كانوا مسلمين أو غيرهم.

ولما يصوم المسلمون بهذه الكثافة العالمية الموحدة فقد يكون هناك أثر اقتصادي لا غبار عليه إما بارتفاع الأسهم أو انخفاضها،زيادة الإنفاق أو نقصانه ،الاستيراد أو التصدير ...وهذه وحدة اقتصادية عالمية لا يمكن تجاهلها أو تهميشها عند استقراء البعد الرئيسي للصيام في رمضان.

ورمضان هو خصوصية الصيام باعتباره زمنا متميزا لا أنه مجرد إجراء شعائري وتصرف ذاتي وملازم له يأخذ صفة البشرية الحيوانية المتحركة والنباتية المتغذية والنامية.وهنا يطرح رمضان مسألة النسبية الزمانية ودواران الأحكام أو العلل معها حضورا وغيابا ،وجودا وعدما ،حركة وسكونا.

2) فقد نجد لدى ابن رشد في كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد هذه الإشارة الدقيقة والمدققة حينما قال عن أنواع الصيام: "إن الصوم الشرعي منه واجب، ومنه مندوب إليه. والواجب ثلاثة أقسام: منه ما يجب للزمان نفسه، وهو صوم شهر رمضان بعينه. ومنه ما يجب لعلة، وهو صيام الكفارات. ومنه ما يجب بإيجاب

الإنسان ذلك على نفسه، وهو صيام النذر. والذي يتضمن هذا الكتاب القول فيه من أنواع هذه الواجبات هو صوم شهر رمضان فقط... فأما صوم شهر رمضان فهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب فقوله تعالى (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) وأما السنة ففي قوله عليه الصلاة والسلام "بني الإسلام على خمس، وذكر فيها الصوم" وقوله للأعرابي "وصيام شهر رمضان" قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. وأما الإجماع فإنه لم ينقل إلينا خلاف عن أحد من الأئمة في ذلك. وأما على من يجب وجوبا غير مخير فهو البالغ العاقل الحاضر الصحيح إذا لم تكن فيه الصفة المانعة من الصوم وهي الحيض للنساء، هذا لا خلاف فيه لقوله تعالى (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)".

ثم تطرق للأركان وهي" ثلاثة: اثنان متفق عليهما، وهما الزمان والإمساك عن المفطرات. والثالث مختلف فيه وهو النية. فأما الركن الأول الذي هو الزمان، فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما زمان الوجوب، وهو شهر رمضان. والآخر زمان الإمساك عن المفطرات، وهو أيام هذا الشهر دون الليالي، ويتعلق بكل واحد من هذين الزمانين مسائل قواعد اختلفوا فيها".

وعند هذه الأركان أيضا نجد التوحيد قائما بين ميدان الفعل والفعل ومحرك الفعل،أي أن الزمان يمثل مجالا لاستغراق الرحلة الصامتة التي لا ضوضاء لها، والتي هي أسرع من الضوء نفسه وسنواته،لأن الإمساك عمل سلبي وغير مرئي ولهذا فلا يخضع للحركة الزمنية العادية من حيث قطع مسافاته واختراق آفاق مجراته وسمواته .وهذا العبور لا يتم إلا بعنصر غيبي في حد ذاته والذي يمثل الضمانة الجوهرية لإتمام الرحلة والوصول إلى الغاية :"وأن إلى ربك المنتهى".وهذا العامل ليس إلا النية والقصد ،ولا يمكن أن تكون فعالة إلا بتوحيد الهمة والسبيل الذي لا عوج له ولا تعاريج.وإنما :"الأعمال بالنيات".وللنيات تعريفات وأحكام دقيقة لا يمكن تحصيل الفعل الصحيح بغيرها قد نلخصها في جملة لا غير وهي:"الإرادة الباعثة للقدرة المنبعثة عن المعرفة"على حسب رأي أبي حامد الغزالي.

إذن ففي رمضان قد اجتمعت الخصوصيات المثلثة ،وهي تجمع بين الفيزيائي والفسيولوجي والكيميائي و النفسي(السيكولوجي) وبين الروحي والجسدي ،في لحظة ولغاية واحدة لا تقبل التشطير ولا التحوير.

ومن هنا فقد يكون من غير اللائق أن يحصر بعد الصيام الرمضاني في مجرد اعتباره تربية بدنية أو خلقية أو أن له ثمرات اجتماعية تضامنية وكذا اقتصادية وصحية ،فكل ذلك وارد وممكن ولكن ليس هو المقصد الرئيسي في الصوم.

فلو اعتبر الصوم مجرد حمية أو ترويض على الوقاية الصحية وتنظيم الهضم فذلك شيء ممكن في الزمان والمكان بالتقليد أو التقريب عند المسلمين وغيرهم،وكذلك لو اعتبر الصوم كمجرد بعد لتوحيد الشعور بالجوع ومن ثم الإحساس بالفقراء فهو أيضا وممكن ويمكن حدوث عكسه،إذ الذائق لألم الجوع إما أن يعطف على الفقراء ويتكرم عليهم أو يخاف على نفسه الفقر فيميل نحو البخل والتقتير خوفا من سوء الحال في الاستقبال ،وهكذا الأمر في جميع ما يطرح كحكم وأبعاد، وخاصة حينما يرتبط بالقياس النفسي والتفسير الذاتي للغايات والمقاصد.

فإذا كانت هذه الاعتبارات والفرضيات لا تفي بتحديد البعد الحاسم للصيام كخصوصية إسلامية لا منازع لها فما هي وكيف يمكن لنا استنباطها بعد استقراء كامل غير منقوص ؟ قد تمكن الإجابة عن هذا السؤال في المقال المقبل إن شاء الله تعالى ،ورمضان مبارك سعيد لكل كائن شعوري وإنسان مريد.



محمد بنيعيش