في الوقــت الذي دخلت فيه الرؤيـــة الإستراتيجية للإصلاح عامها الرابع، يصعب تلمـــس انعكاســاتها على المشهد المدرسي العمومي، في ظل موجات الاحتقـــــان التي غمرت وتغمـر المدرسة العمومية، ولا منــاص اليوم من القول إن أفرشــة الاحتجاج والتذمر والرفــض غطت على أسـرّة الإصلاح، مشكّلــــة لوحة ذات معالــم غامضــة لمدرسة عموميــــة قـــدر لهــا أن تتموقــع بين فكــي "الإصلاح" و"الاحتقــــان"؛ رؤية خرجت من رحم الأزمة، وبعدهــا الاستراتيجي كـــان يقتضي أولا استحضار واستيعاب المشاكــل الجمة التي تتخبـــط فيها "الشغيلة التعليميـــة" التي عمـر بعضها لسنــوات عجاف، كما هو الحال بالنسبة للأساتذة ضحايا النظامين الأساسييـــن وأساتذة الزنزانـة 9، ومحاولة معالجتها بما يــؤسس لبيئـــة "آمنـــــــة" و"مستقـــرة" تسمـــــح بنمو شتـلات الإصلاح، بــل وسوف تــزداد الرؤيـــة غموضـا وارتباكا بالمجــــازفة في تبنــي خيــار التوظيـــف بالتعاقد الذي بدأ ربيعا ساكنا سرعــــان ما تحول إلى "خريف جارف" أربك الحسابـــات وبعثـــر التوقعات ولخبط الرهانات، وأحكم الخنــــاق بعنــق "إصــلاح" يعـــول عليه في إخراج المدرسة العمومية من أوحال الجمود والرتابــة.

مشاكل بالجملة وإن اختلفت أطرافها وتبـــاينت أهدافها ومطالبهــا، فإنهــا تتلاقـى في مــدارة "الأستاذ(ة)" الذي تراجع وضعه الاعتباري داخل المجتمع، وأضحى موضوعا للعنف المتنامي وأحيانا مثــارا للسخرية والاستهزاء، وحائطا قصيرا يعلق عليه البعـــض ما تتخبط فيه المنظومة من معوقات وأعطاب متعددة المستويات، ويمكن المجازفة في القول إن "مهنة التدريـــس" أصبحت مهنة مرادفة للهشاشة والتهميش ومهنة من ضاقت به السبل أو من اكتـــوى بلهب البطالة، ويكفي مقارنة المهنة بمهن أو وظائـف أخرى لتلمـــس درجة الحيف وحجم التقصير الذي يعاني منه رجل قيل فيــه "كاد المعلم أن يكون رســـولا"، وفي الوقت الذي تبذل فيه مجموعة من الإدارات والمؤسسات العمومية مجهودات لتحفيز موظفيها أو مستخدميها والارتقاء بأوضاعهم المادية والاجتماعية والنفسية، تبقى دار لقمان "التعليم" على حالها، وهي تبدو اليوم كطنجــرة احتقـــان تطبخ لسنوات على جمر الاحتجاجات والمطالب واليأس والإحباط، وبدل تخليصها من عذاب النار، تم طرحها جانبا تحترق على مهل، وتم الانشغال بجدل عقيم حول القانون الإطار ولغة تدريس العلوم، وهو جدل كــان من الأجدر أن يحتدم حول السبل الممكنــة لإعادة الاعتبار لرجل التعليم الذي بــــــدونه لا يستقيم إصـــــلاح.

فالرهان على القوانين أو الخطط الإستراتيجية، أو نفــض الغبار عن المناهج المتجاوزة والبرامج المتهالكة أو الخوض في متاهات لغة تدريس العلوم، بمعزل عن "الأستاذ(ة)"، هـــو رهــان آيــل للفشل، لأنــــه يغيــب "محرك الإصلاح" ويستبعــد "العمود المركزي" في "خيمـة" هذا الإصلاح، ولا يمكن تحريـــك الآلـة بدون محــرك قوي ومحفز، ولا يمكن البتــــة بنـــاء "خيمـــة" متينـــــة بدون عمــــود مركزي، متين وقادر على شد وضبط باقي الأعمــــــدة، أو تنزيل "رؤية استراتيجية" يشكل "الأستاذ(ة)" دعامتها المحورية، لذلك، فمن غير المقبول أن يظل الأستاذ(ة) خارج التغطيـــــة، ومن غير المنطقــي أن نبنــي تعليما "سويــا" بأستاذ(ة) معـــــاق(ة) ماديا واجتماعيا ونفسيا ومهنيا، ومــن العبث أن تكـــرم "التفاهـــــة" وتحتضن "بيضة" السخافة في بلد تنتهــك فيــه صـــورة "القـــــــدوة" وتغتصــب فيـــه "الرمزيــــــــة" في واضحــــة النهـــار، بــــدون خجل أو حيـــــــــاء.

ويمكن التساؤل في خاتمة هذا المقال: كيف لأستاذ(ة) غير محفز(ة) تسيطر عليه(ها) أحاسيس الحيف والتقصير والإحباط، أن يبادر إلى تحفيـــز تلميذ(ة) ويقنعــه(ها) بالجدوى من المثابرة والكد والاجتهاد من أجل إدراك مدارج العلى؟ كيف لأستاذ(ة) يائس(ة)محبط(ة) أن يرسم "فسحــة أمل" أو يمــرر قيما أو يعطي حياة لمناهج وبرامج وطرائـــق بيداغوجية؟ بل أكثر من ذلك، كيف لتلميذ(ة) في مقتبل العمر أن يضــع "ثقتــه" في أستاذ(ة) تراجعت قيمته المجتمعية، ولم يعد يعكس "القدوة" و"النموذج" و"الرمزيــة"، ويتقبل ما يصدر عنه من رؤى وتصورات وتوجيهات؟

أسئلة وأخرى تســائل من يعبث بصورة رجل التعليم ويصـــر على إفقاده محتــــواه في زمن "البوز" والنجومية الزائفــة، كما تسائل كل من يراهــن على الإصلاح في غيــاب "القائد" و"المهنــدس" و"المايسترو" القـــادر وحده على ضبط كل إيقاعات الإصـــلاح، وترجمتها على أرض الواقـــــع، ومهما قيل ويقال، يبقى رجل التعليم حاملا رسالته النبيلة بأمانــة، مصــرا على الشموخ والرقي، في زمن سار كبحر هائم يحتضن "التفاهة" بعشق وهيام، ويلفظ بشراسـة من يبني درجات الرقي والمجد والتميز والابتكـــار...

Laaouissiaziz1@gmail.com