قام البابا فرانسيس الحبر الأعظم للفاتيكان بزيارة رسمية إلى المغرب يومي 30 و31 مارس وذلك بطلب من الملك محمد السادس، وقد عرفت هذه الزيارة العديد من الأنشطة الرسمية لعل أهمها بعد الاستقبال الرسمي الخطابان اللذان ألقاهما كل من البابا والملك بساحة مسجد حسان، ثم التوقيع بعد ذلك على "نداء القدس"، أعقب ذلك الحفل الفني الذي احتضنه معهد تكوين الأئمة الذي شهد من بين فقراته الاحتفالية وصلة موسيقية تضمنت مزجا بين الابتهالات والترانيم الدينية في الديانات الثلاث المعروفة بالديانات التوحيدية، وأخيرا القداس الديني للبابا بالقاعة المغطاة للمركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله، وقد كان الغرض من الزيارة حسب ما ورد في الكلمات المختلفة التي أُلقيت بالمناسبة هو نشر قيم السلام والمحبة، وتوثيق عرى التعايش والتسامح.

لكن هذه الزيارة وما رافقها من أنشطة وأحداث أثارت الكثير من اللغط والصخب في العالمين الحقيقي والافتراضي على وسائل التواصل الاجتماعي على حد سواء، وكان أهم هذه الآثار بيان "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" بالنظر إلى ما أحدثه البيان نفسه من وردود أفعال مختلفة ونقاشات مستفيضة بين مؤيد ومعارض تعكس اختلاف وجهات النظر في قضايا رئيسة بخصوص الزيارة.

بالرجوع إلى بيان اتحاد العلماء نجده يركز على قضايا عامة قد تكون محل اتفاق، وقضايا أخرى تفصيلية قد تكون مثار جدال واختلاف، هذه القضايا بالضبط هي التي أثارت نقمة البعض وتحفظاتهم على البيان:

فأما القضايا العامة التي يمكن الاتفاق بشأنها فتتمثل على الخصوص فيما يلي:

-تعبير اتحاد العلماء عن الاهتمام بأحوال الأمة باعتباره اتحادا يمثل شريحة لا يستهان بها من علماء الأمة وليس فقط اتحادا خاصا ببلد أو جهة بعينها، الشيء الذي يقتضي أن يهتم بمن يُمثلهم ويعبر عن همومهم وقضاياهم، ولا يجوز المصادرة على المطلوب بخصوص هذه الجزئية من خلال الإدعاء بأن الدول المستقلة لا يتدخل أحد في سيادتها لذا لا يجوز لأحد أن يحشر انفه في هذه القضية لأنها تعني المغاربة وحدهم.

-تأكيد اتحاد العلماء وإقراره في هذا البيان بأهمية مبدأ التسامح والتعايش والحوار وأنه "مبدأ ثابت وواسع في الإسلام" ولا يمكن التنصل منه مهما كانت الظروف والأحوال.

أما القضايا التفصيلية التي يمكن الاختلاف في شأنها فتتعلق أساسا بما يلي:

-الحفل الموسيقي في معهد تكوين الأئمة وما وقع فيه من "التلفيق بين الأذان الذي يعد من أعظم شعائر الإسلام، وبين الترانيم والأناشيد الكنسية، التي تتناقض مع عقيدتنا وشعائرنا، ولذلك فهذا التلفيق أمر مرفوض لا يليق بعقيدة التوحيد".

-التعريض بعبارة "...القدس الشريف باعتبارها مشتركا للإنسانية، وبوصفها قبل كل شيء أرضا للقاء ورمزا للتعايش السلمي بالنسبة لأتباع الديانات التوحيدية الثلاث" الواردة في نداء القدس الموقع من طرف كل من الملك والبابا، وتأكيد اتحاد العلماء في المقابل في بيانهم على أن "الحفاظ على القدس باعتبارها أرضا عربية إسلامية، وليست ملكا مشتركا بين أهل الديانات".

ولا شك عندي أن بيان الاتحاد لم يكن موفقا بخصوص القضايا التفصيلية بالقدر نفسه الذي كان فيه موفقا في القضايا العامة وذلك للأسباب التالية:

1-عدم التمييز بين التدبير السياسي المؤقت والذي يحكمه التدافع والتفاوض والإحراج في وقت تسعى فيه الإدارة الأمريكية بكل ما أوتيت من قوة ونفوذ إلى تكريس كل ما تقوم به إسرائيل من تهويد للقدس وتجريف المظاهر الإسلامية والمسيحية في المدينة، وبين التلويح بالثوابت التي قد لا يعترف بها الآخر المحاوَر وتكون عادة هدفا مستضمرا للمحاوِر قد لا تظهر في البيانات التي تتضمن المتفق بشأنه وتغفل المختلف عليه.

2-عدم مراعاة السياق العام الذي حاول المنظمون أن يؤكدوا عليه، وهو السياق الذي ينحو نحو الحوار والتعايش ومعاملة الآخر بمثل ما يرجو المرء لنفسه من التكريم والتسامح والحفاوة، فالبيان في هذا الوقت وما تضمنه من إشارات جعله يظهر كأنه ضد زيارة البابا من أساسها رغم أنه ليس كذلك، وأنه كذلك ضد قيم التعايش والتسامح رغم تأكيده المسبق على أنها من الثوابت والقطعيات التي لا تتبدل ولا تتغير.

3-رفع جزئيات فقهية إلى مستوى الأصول، بحيث كان بيان اتحاد العلماء في غنى عن الوقوف عند الحفل الموسيقي في معهد تكوين الأئمة واعتبار ما وقع هناك يتناقض مع "عقيدتنا وشعائرنا... ولا يليق بعقيدة التوحيد"، وذلك لاعتبارين على الأقل: أولاهما أنه عمل على رفع جزئية فقهية إلى مستوى الأصول العقيدة وهو إخلال واضح بضرورة التمييز بين قطعيات العقيدة ومحكماتها وبين جزئيات الأحكام ولو تعلق الأمر بالشعائر مثل الأذان، ثانيهما أنه مال إلى القطع في مسألة ظنية خلافية، إذ الأمر في الحقيقة متردد بين أن يكون أذانا أو ليس بأذان فكان الواجب حمل الأمر على أحسن المخارج وهو كونه ليس أذانا درءا للفتنة واعتبارا للمآلات، كما أنه متردد بين الجواز والحظر حتى ولو اعتبرناه أذانا، وعليه فلا بد من مراعاة الخلاف في الموضوع على أقل تقدير، فالمسألة على أية حال مختلف فيها ولا يجوز اعتبارها من قطعيات المحرمات بله من أصول العقيدة.

لكن على الرغم من أن بيان العلماء يحتمل هذا النقاش العلمي الهادئ فإن أغلب ردود الفعل لم تكن في المستوى المطلوب خصوصا من طرف المعارضين للبيان كما سأوضح ذلك، فردود الفعل عموما انقسمت إلى اتجاهين متضادين: فريق مؤيد وآخر معارض مستنكر:

فأما الفريق المؤيد فلم تكن موقفه ابتداء وغنما جاءت ردودا ضد حملة التسفيه الواسعة للبيان وأهله، ومن ثمّ سقطت في آفة الانتصار لكل ما ورد في البيان من وجهات نظر رغم أنها تحتمل أكثر من وجه وقراءة كما رأينا، ولعل بعضهم انطلق من الغيرة على العلماء واتحادهم فوقع بقصد أو بدون قصد في "انصر أخاك ظالما أو مظلوما".

أما الفريق المعارض المستنكر وقد كان أكثر عددا، فيمكن تقسيمه إلى اتجاهين اثنين:

أولا: اتجاه حاول مناقشة البيان عن طريق إيراد الأدلة والحجج دون أن يسقط في الإسفاف العلمي والسياسي، وهؤلاء لا كلام معهم إذ حقهم مكفول مثلهم في ذلك مثل اتحاد العلماء الذي يجب الإقرار بحقه في إبداء الرأي مع الاحتفاظ بحق مناقشة أرائه وإخضاع اجتهاداته للفحص والنقد.

ثانيا: اتجاه جانب الصواب باعتبار أن أغلب مناقشاته انصبت على التنقيص من الاتحاد ورئيسه وأعضائه، وسلبهم حقهم الطبيعي في إبداء الرأي، وإلزامهم بما لم يصرحوا به في بيانهم، وإلى هؤلاء سأتوجه ببعض الملاحظات العامة المستخلصة من كتاباتهم، والتي تُعري بعض النواقص التي اعترت ردودهم من خلال التركيز على بعض القضايا البارزة دون التوقف عند أصحابها باعتبار أن ما يهمنا بالدرجة الأولى هو الرفع من مستوى النقاشات العمومية بما يجعلها تعالج المشكلات والقضايا مثار النقاش وليس غرضنا البتة التنقيص من مكانة أحد أو غمط حقه في التعبير والرأي.

ولعل أهم النواقص التي اعترت مناقشات بعض المعترضين على بيان اتحاد العلماء هي:

1-طابع التحريض الذي اتسمت به ضد الإتحاد ورئيسه، ومحاولة الإيقاع بين الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وبين الدولة المغربية باعتبار أن ما ورد في البيان هو تسفيه للملك ولمؤسسة "إمارة المؤمنين"، بحيث نجد هناك من اعتبر البيان "ردة فعل على عمل جبار وعظيم صدر عن إمارة المؤمنين"، وهناك من كتب "أن الملك، بموافقته على فقرات الحفل بالشكل الذي امتزجت فيه الترانيم بتلك الألفاظ المستوحاة من الآذان ، أتى... "منكرا وزورا" وهو بالتالي "أمر محرمٌ شرعاً". ومعنى هذا أن الملك بات يرتكب "المحرمات شرعا" ويأتي "المنكر والزور"، وكذلك هناك من اعتبر ما ورد في البيان خطابا "يحرض ضد السلطة الحاكمة".. وغيرها من العبارات والأقاويل التي طفحت بها العديد من المقالات وردود الفعل، وهي أمور تنقل أصحابها للأسف من المناقشات العلمية الخالصة، ومقارعة الحجة بالحجة إلى التحريض العلني والمباشر ضد الاتحاد، وهكذا لا نستغرب أن يصل الأمر ببعض الهيئات –وإن كان في معرض الرد على بيان لرابطة أخرى للعلماء- إلى الدعوة العلانية لحل "كل المنظمات والجمعيات الدينية المتطرفة التي تؤسس لخطاب التكفير والكراهية"، أو نجد أحدهم يعبر بكل وضوح " ليس أمام الدولة إذن، سوى التعامل بحزم مع دعاة الفتنة".

وللإضفاء مزيد من التشويق والإثارة فلا بأس عند بعض هؤلاء من التذكير بأن رئيس الاتحاد سبق له أفتى بأن الملك "ليس مؤهلا ليتولى إمارة المؤمنين بحكم تكوينه الأكاديمي البعيد عن التكوين الفقهي والشرعي"، ورغم أن إيراد هذه القضية ليس على وجهها فإن المهم فيها هو استحضار التاريخ بغية التحريض السياسي على أطراف بعينها بدل المناقشة العلمية المتزنة للبيان.

2-قراءة البيان في ضوء المناكفات السياسية، والصراعات المذهبية التي يعرفها العالمان العربي والإسلامي، الشيء الذي أدى إلى تسييس البيان والخروج بالردود عليه من الحقل العلمي إلى فضاءات المجال السياسي الملغومة، وذلك من خلال إشارة بعض هذه الردود إلى قضيتين هما:

-ربط الاتحاد وبيانه بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين وأهدافه الظاهرة والخفية، وأن البيان يعبر في حقيقة الأمر عن وجهة نظر هذا التنظيم لا عن رأي العلماء المنضوين في الاتحاد، مع الإشارة إلى المشكلات السياسية لهذه الحركة العالمية وأنها تعمل على نقل هذه المشكلات وتصدير أزماتها إلى المغرب، ففي عنوان دال لإحدى الردود سكّه صاحبه على الشكل التالي "تعليقا على بيان الاتحاد العالمي للإخوان المسلمين"، أو ما جاء على لسان شخص آخر الذي وصف البيان بأنه البيان "الذي أصدره علماء الإخوان"، وثالث اعتبر أن الاتحاد يمثل "الدرع الدعوي لحركة الإخوان المسلمين"، وهكذا.

ورغم أنه لا يمكننا نفي أن الكثير من أعضاء الاتحاد ينتمون فعلا لهذا التنظيم فإنه لا ينفي في المقابل أن الأعضاء الآخرين لا ينتمون بالضرورة لهذا التنظيم، ولا يوافقونه في توجهاته وأفكاره، كما أن بيانات الاتحاد كما هو واضح من اسمه ولوائحه تعبر عن عموم المنتسبين له وليس منصة لفصيل من فصائله، هذا بالإضافة إلى أن هذا النوع من النقاش يجنح عن المناقشة العلمية ليغرق في تفاصيل السياسية وأحابيلها التي تفسد كل شيء.

-استحضار الاستقطاب السياسي والديني الذي يشهده العالم الإسلامي باعتبار أن تأسيس اتحاد علماء المسلمين تمّ "من طرف ثلاث جهات دينية-سياسية معلومة هي قطر وتركيا و جماعة الإخوان المسلمين بمصر برعاية أمريكية متزامنة مع مشروع الشرق الأوسط الكبير"، وأن هذا البيان أصدرته هيئة دينية "ممولة من جهات تتبنى الطرح الإخواني بعد دحر هذا الأخير في قلب حاضنته الأم مصر"، أو الغمر بأن الاتحاد العالمي للعلماء مصنف على لوائح الإرهاب في دول الخليج. وهذه ادعاءات وتوهيمات لا تحتاج إلى رد ليس فقط لأن بعضها غير صحيح ولكن أيضا لبُعدها عن العلمية والاحتراف في التعاطي مع مثل هذه القضايا والأحداث.

3-الإعلاء من شأن الخصوصية المحلية للمغرب، والتأكيد على ضرورة الحفاظ على الأمن الروحي والفكري للشعب المغربي بحيث أن:

-هناك من يرى وجود نموذج للإسلام المغربي السني المنفتح "المعتدل والوسطي" والذي يُظهر ميولات تجديدية وإصلاحية، وذلك في مقابل وجود نماذج أخرى للإسلام مشرقية بالضرورة ومختلفة عن "الإسلام المغربي" وخصوصا الإسلام الإيراني الشيعي، والإسلام الإخواني المتشدد، والإسلام السعودي الوهابي، وأن بعض هذه النماذج خصوصا الإيراني الشيعي والإخواني المتشدد يعملان على اختراق "الإسلام المغربي" من الداخل، وأن قراءة وتفسير البيان الأخير لاتحاد العلماء يجب أن تتمّ على ضوء هذه المعطيات.

-كما أن هناك من يعتقد خطأ بيان الاتحاد باعتباره تدخلا في شؤون وسيادة الدول المسلمة على أرضها، وأنه تطفل على شؤون الفتوى في بلد توجد فيه مؤسسة إمارة المؤمنين والمجالس العلمية والمراجع الدينية الموكول إليها شؤون الفتوى.

وإذ لا يمكن بحال نفي وجود تعدد في نماذج التدين في الإسلام واختلافها باختلاف الظروف الزمانية والمكانية، وهي مسألة انتروبولوجية ثقافية تمّ إثباتها منذ فترة، فإن استعمال هذه الحجة أعتبره حقا أريد به باطل وهو نفي القدرة على فهم النموذج المغربي في التدين وتفسيره عن أي أحد، كما أنه يسعى إلى توسيع دائرة هذه الخصوصية لتشمل كل شيء يتعلق بالإسلام بما فيها المشتركات والقواسم العامة التي لا يمكن أن ينفرد بها نموذج في التدين دون آخر.

4-رمي بيان اتحاد العلماء بأنه بيان تكفيري أو "بيان الكفر" ناهيك عن اتهامه بالتشدد ورفض التعايش والتأويل الظاهري لشعائر الإسلام... ولائحة الاتهامات عريضة.

وإذ يمكن تفهم قراءة اجتهاد البيان في إطار النزوع نحو التشدد في الأحكام كما أشرت إلى ذلك سابقا من خلال رفع جزئيات فقهية إلى مستوى الأصول، فإنه لا يمكن فهم شيئين: أولهما وسم البعض للبيان بالتكفيري أو بيان الكفر وذلك لأن البيان باختصار لم يتهم أحدا بالكفر ولا كفّر أحدا، ولا يمكن إلزامه بذلك لأنه ورد فيه بشأن الحفل الموسيقي مثلا "فهذا التلفيق أمر مرفوض لا يليق بعقيدة التوحيد"، وذلك لأن لازم المذهب ليس بمذهب كما هو مقرر في مظانه. ثانيهما اتهام البيان وأهله برفض التعايش والتسامح مع أن البيان وضح بما لا يدع مجالا للشك بأن مبدأ التسامح والتعايش والحوار "مبدأ ثابت وواسع في الإسلام".



حفيظ هروس