عرفت الساحة المغربية في الآونة الأخيرة مجموعة من الأحداث المثيرة، ولعل أبرز هذه الأحداث على الإطلاق قضية الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد أو أطر الأكاديميات كما تسميهم وزارة التربية الوطنية. ولربما ستبتكر الوزارة تسميات جديدة لأنها تجيد نحت التسميات.

يعود تاريخ العمل بهذا النظام، نظام التعاقد إلى سنة 2016، إذ تمكنت الوزارة من توظيف ما يناهز 75000 ألف أستاذ عبر دفعات بدءا بالسنة المذكورة سابقا. لهؤلاء الأساتذة-الذين فرض عليهم التعاقد- الواجبات نفسها، لكن في الحقوق هناك بون شديد بينهم وبين الأساتذة الرسميين. وأمام هذا الوضع المأزوم الذي ينال من جسد هذه الفئة وعقلها يوما بعد يوم، قرر هؤلاء إنشاء تنسيقية خاصة بهم، التي باتت معروفة باسم "التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض علبهم التعاقد".

بعد سلسلة من الإضرابات وحمل الشارات الحمراء والسوداء، مع العلم أن كل الخطوات النضالية سابقا كانت تبرمج نهاية الأسبوع وفي أيام العطل، حفاظا على الزمن المدرسي، لكن الوزارة دائما تنهج سياسة الآذان الصماء.

ومن ثم فما كان للتنسيقية سوى التصعيد عبر مسيرات واعتصامات جهوية ووطنية، هنا عرفت القضية منعطفا خطيرا بعد التدخلات العنيفة في حق الأساتذة، وليس ببعيد مسيرة الرباط المصحوبة باعتصام يومي 23 و24 مارس، إذ تعرض الأساتذة لجميع أشكال الرفس والدهس مع الاستعانة بخراطيم المياه لتفريقهم... وقد سجلت إصابات متفاوتة الخطورة في صفوف الأساتذة، وتجدر الإشارة ههنا إلى خرجات الوزارة في كل مناسبة بخطابات شديدة اللهجة لا تخرج عن نطاق الترهيب والتهديد بفسخ العقود...

وتبعا لما تقدم ذكره، نطرح بعض الأسئلة المشروعة والملحة: لماذا تنهج الوزارة دائما سياسة الهروب إلى الأمام؟ لماذا لم تفتح الوزارة لحد الآن باب الحوار الجاد والمسؤول مع التنسيقية بعيدا عن الوسائط (النقابات)؟ أليست هناك لغة أخرى بديلة عن العنف والوعيد؟

* التواصل ولا شيء غير التواصل

تحضرني في هذا المقام تجربة الفيلسوف البلجيكي شاييم بيرلمان الذي ألف كتابا ترك أكبر الأثر في دراسات الحجاج إلى اليوم وهو كتاب "مصنف في الحجاج: البلاغة الجديدة" traité de l’argumentation. La nouvelle rhétorique... ويُرجِعُ الباحثُ جورج فينو أسباب تأليف هذا المصنف

إلى عوامل سياسية، ارتبطت بتأثره الشديد –وهو اليهودي البلجيكي- بالإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية، الشيء الذي جعل بيرلمان يقتنع بأن الكلام المستند إلى المطلق قد يقودنا إلى اللاعقل والتخريب...

وفي خضم الحرب الباردة في سنوات الخمسينيات والستينيات بين المعسكرين الشرقي الاشتراكي والرأسمالي الغربي، بدا لبيرلمان أن ما أصبح مهددا هو قيمة العدل داخل الممارسة الديموقراطية.

فإلى حد الآن اقتنصنا من تجربة بيرلمان حلين اثنين:

1 – الابتعاد عن الكلام المستند إلى المطلق: لعل المتتبع لخرجات وزير التربية الوطنية أو رئيس الحكومة أو الناطق الرسمي باسم الحكومة أو مديري الأكاديميات، سينتبه –لا محالة- إلى تكرار خطاب واحد هو خطاب الوعيد والتهديد والنزعة المطلقة، وهذا بحسب تجربة بيرلمان أمر غير محمود البتة.

2 - العدل: بما أننا ذكرنا سابقا أن لهؤلاء الأساتذة الواجبات نفسها، وليس لهم الحقوق نفسها مقارنة بزملائهم الأساتذة الرسميين، فهنا يجب الالتزام بمبدأ العدل الذي نَبَّهَ إليه بيرلمان متوقعا أنه بات مهددا. ومن ثم فمن باب العدل إدماج الأساتذة لأداء المهام المنوطة بهم، بعيدا عن الخوف من المجهول الذي يلاحقهم بفعل وضعيتهم الهشة.

كما تجدر الإشارة قبل الختم، إلى أن المعركة النضالية ليس فيها غالب ولا مغلوب، ومن ثم فعلى الوزارة أن تعي بأن تحقيق مطلب الإدماج هو مكسب للمدرسة المغربية وليس شيئا آخر، ولا يفوتنا الإشارة إلى قولة عميقة تستحق التمعن للكاتب فليب بروطون المقتطفة من كتابه الحجاج في التواصل(ص:18): "نستطيع باستعمال القوة أن نحصل من الآخر على فعل غير مرغوب فيه بصفة عامة، فالاستغناء عن استعمال القوة يمثل خطوة نحو إنسانية أكثر؛ أي نحو رابط اجتماعي يكون متبادلا غير مرفوض".

صاحب المقال:

الحسين الرحاوي

أستاذ اللغة العربية بالسلك الثانوي التأهيلي، وباحث في البلاغة وتحليل الخطاب.

البريد الإلكتروني: erhaouy17lhoussain@gmail.com