ما الموت إلا تلك العلاقة المنتهية بين العالم الداخلي والخارجي لذلك الشيء الميت. تلك العلاقة التي كانت متسمة بالأخذ والعطاء وفق قوانين كونية في غاية الدقة. الانسان كما هو حال الحيوان أو الجماد يستمدون في حياتهم الاستمرارية من خلال التفاعل مع المحيط، بصفة مستمرة وبدون توقف. والامر الذي يُكسر هذه السيرورة يطلق عليه الموت.

وما عالم الخلايا الحية ببعيد الفهم والادراك، وخاصة مع تقدم ألة العلم ونظرياته. فخلايا الكائن الحي دائمة البناء والتجديد الذاتي بعد كل هدم أو عطب يصيبها، وذلك تحت قيادة تلك المادة الرئيسة التي يطلق عليها علماء البيولوجيا "الحمض النووي". فالمكونات الذرية لهذا الحمض دائمة التجديد والنمو، بدون أن تُغيير من هندستها من شيء (باستثناء طفرات نادرة)، مما يستلزم معه جلب حاجيات طاقية على شكل جزيئات كيمائية من المحيط الخارجي (جزيئات سكرية، نباتات خضراء...). هذا النشاط المستمر قد يكون مرادفا للحياة التي لا يُمكن تفسير استمراريتها الا من خلال هذا التبادل مع المحيط الذي إن توقف أو أصابه خلل يحل الموت المُدمر لهذا التنظيم الحي.

وإذا انتقانا الى النظر في حياة بني البشر اليومية، نرى أن أهم مكونتها وسماتها أيضا، خاصية التبادل والتفاعل سواء كان بناء أو هدما، حيث يُجمع العقلاء على أن الانسان لا يستطيع ان يعيش بنفسه ولنفسه فقط. وهذا ما دَل عليه قول علماء الاجتماع بأن الانسان "كائن اجتماعي"، يعيش على نمط تَطبعه علاقة تفاعلية أفقية بين مكونات الجماعة أو المجتمع الذ ينتمي اليه وِفْق نُظم ومبادئ متفق عليها (تقاليد وأعراف وقوانين، ...). يكون البناء إذا كانت تلك النظم والمبادئ "الصالحة" محترمة من قبل الكل ويتحرك وفقها الكل في السر والعلن. بينما يحل الهدم بكل تجلياته المدمرة عندما تَفقد تلك النظم مكانتها كموجه أو حكم.

وخلاصة ما ذُكر، أن الحياة تستمر إذا كان هناك انسجام بين أفراد المجتمع منبعه الاخذ والعطاء. وتتوقف إذا حل الموت المرادف الى تَوقف عملية التبادل والتفاعل المبنية على أسس مشتركة وأهداف تنموية متفق عليها والمحددة لمسار التقدم والنمو الذي تشرف عليه الدولة أو التنظيم القائد.

وعلى هذا نستطيع أن نقول أن الانسان، جزءا و كلا، هو كذلك يعيش ويستمر في الحياة من خلال علاقة الاخذ و العطاء مع محيطه الخارجي المنسجم معه فيكون البناء، أو المتنافر معه فيَحل الهدم.

وتفاعلا مع الاحداث المؤلمة التي وقعت هذه الأيام من شهر مارس بنيوزيلاندا، حيث أقدم شخص على قتل أكثر من خمسين مسلما أثناء أدائهم صلاة الجمعة بأحد المساجد كما قام بتصوير هذه الفعلة "الإرهابية" وبثها على وسائل التواصل الاجتماعي مباشرة. (شخصيا لا يمكنني أن أصفه إلا بأنه قد قتل

الإنسانية جميعها بفعله هذا ووضع المسمار الأخير في نَعْش مبادئ التعايش والاندماج بين أفراد المجتمع المختلفة انتماءاتهم الدينية).

وحينما ننظر في هذا الحادث من خلال منظار الاخذ والعطاء الذي يُعد، كما بينا سلفا، أبرز سمات الحياة. نقول بأن هذا الفرد قد توفقت عنده تلك العلاقة التفاعلية مع هذه الفئة من المجتمع، وأصبح عندها لا يتفاعل معها لا أخذا ولا عطاء، مما نتج عنه تَوَقف الحياة عنده أولا ثم قيامه بترجمة هذا "الموت" الى فعل الاقدام على قتل "توقيف حياة" أشخاص لا يتقاسم معهم أي مشترك، سوى تلك الورقة التي لا ترقى الى قيمة المداد التي طُبعت بها، وهم في أسمى تجمع ديني.

هذا الحادث يُساءِل البشرية جمعاء وخاصة المجتمعات التي تضم بين أفرادها فئات لها خصوصيات، يتوجب احترامها، تُميزها عن باقي أفراد المجتمع الواحد فعلا لا إِسْما، هَلْ تَسْمَحُ بِمَوْتِهَا؟



ياسين اعميرة