لقد أجمع اللسانيون على أن اللغة العربية لغة مطواعة، لها من الخصائص الصرفية والاشتقاقية والتركيبية ما يجعلها قادرة على مواكبة العلوم، وتشكيل اللغات الخاصة داخل ميادين مختلفة. وأقرت هيئة الأمم المتحدة، والمنظمة العالمية للتربية والعلوم والثقافة، والهيئات، والوكالات الدولية، بأن العربية لغة عالمية حية، واعتمدتها لغة رسمية إلى جانب باقي اللغات الحية كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية.

ولكن اللغة العربية، على الرغم من المميزات السابقة التي ذكرناها أعلاه، فإنها مازالت تعاني من بعض الصعوبات في إنتاج وتعريب العلوم، نظرا لتشعب العلوم وتفرعها إلى تخصصات دقيقة أدت إلى توليد الآلاف من المصطلحات والمفاهيم والتراكيب الخاصة، يصعب على العربية اليوم استيعابها بنوع من الدقة؛ وهو ما يجعل إعداد اللغة العربية لتصبح لغة لتدريس العلوم أمرا صعبا في ظل غياب تخطيط لساني ورؤية واضحة لهذا الإعداد من قبل الجهات الوصية.

وإذا كانت اللغة الفرنسية، اليوم، تجد صعوبة كبيرة في مسايرة تدفق المعرفة وما تولده من لغات خاصة ومصطلحات ومفاهيم فما بالك باللغة العربية. إن عدم وجود سياسة عربية وقومية موحدة لمسايرة التقدم العلمي والتكنولوجي لهُوَ من أهم أسباب ضعف اللغة العربية العلمية.

يُعتبر تعريب اللغات الخاصة من أصعب القضايا اللغوية المطروحة -الآن- في العالم العربي، لأنه يهم تعريب لغات متخصصة في ميادين علمية مختلفة هي أساس التطور للتوصل إلى التقدم العلمي، والاقتصادي، والاجتماعي في العصر الحديث. ولقد انتبهت إلى ضرورة ترجمة اللغات الخاصة دول متقدمة، نحو الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والصين وبعض الدول الأوروبية المتقدمة؛ فانكبوا على إنشاء مؤسسات خاصة بترجمة اللغات الخاصة في شتى المجالات (العلوم –الفنون- الصناعات...). وكان كل ما يصدر من كتب ومجلات ومقالات في العالم يترجم فوريا، ثم يخزن في قواعد معطيات محوسبة ليستغل عند الضرورة.

وأما في العالم العربي، فإن تعريب اللغات الخاصة لم يأخذ بعد قسطه من طابع الاستعجال والأسبقية والأهمية، للنهوض بتعريب مواكب لمقتضيات العلوم والتقنيات في عصرنا الحاضر. وذلك راجع إلى أسباب؛ منها: أن التعريب في الوطن العربي لم ينطلق من المبادئ نفسها التي انطلق منها استعمال اللغة الوطنية في البلدان الأوروبية، والتي اعتمدت على ترجمة الكتب المدرسية ترجمة وفية، بضبط المصطلحات والتعابير الحديثة، إلى أن صارت قادرة على مسايرة العلوم والتقنيات المعاصرة بلغتها الوطنية.

لقد تم إدراج التعريب في معظم بلدان العالم العربي بدون ضبط أدواته التعليمية فصُنفت كتب مدرسية فيها فراغات مفاهيمية واصطلاحية لا ترقى إلى مستوى الكتاب المدرسي الغربي، وتأخر العرب في ضبط المصطلحات العلمية والتقنية باللغة العربية؛ وهو ما انعكس على جودة تعريب اللغات الخاصة. وعلى الرغم من الجهود المبذولة من قبل المجامع اللغوية في وضع المصطلحات العلمية، فإنه مجهود غير مكتمل بالنظر إلى متطلبات العصر، وبالنظر إلى الاضطرابات في المصطلحات غير الموحدة، بسبب عدم التنسيق وتوحيد منهجية الاشتغال، بناء على آراء العلماء والمثقفين. فهذه الهيئات المهتمة بالتعريب ووضع المصطلحات لا تستشير دائما من العلماء من تجب استشارته. وتمكن في بعض الأحيان من لا علم لهم من تعريب العلوم واللغات الخاصة وتصنيف الكتب العلمية والمدرسية، ناهيك عن الارتجال السائد في التأليف المعجمي القطاعي؛ فلا ما هو مخزون في التراث العربي استُغل بطرق رشيدة، ولا ما وُلد و وُضع اعتُمد في توليده ووضعه مصطلحات موحدة بين الباحثين العرب. والنتيجة أن المترجم يحار فيما يجده من الاختلافات بين القواميس القطاعية، ولا يجد من المعاجم المتخصصة ما يشفي غليله، وهو المطالب بتجنب كل لبس أو خلط أو تعتيم.

وبصفة عامة، فإن مشكلة اللغات الخاصة، ولا سيما المستخدم منها في التدريس والتعليم، قد أعيرت اهتماما كبيرا في الفترات الأخيرة، وتعددت المؤسسات المسؤولة عن إيجاد المقابلات العربية للمصطلحات التقنية والعلمية والفنية؛ ومنها ما قام به مكتب تنسيق التعريب، ومعهد الدراسات والأبحاث من أجل التعريب بالرباط، من مشاريع مهمة في مجال المعاجم الخاصة والقطاعية، كمعاجم الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الحيوان والنبات والجيولوجيا والجغرافيا والفلسفة وغيرها... كما طُبعت عدة معاجم متخصصة تحت إشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، إلا أنها بقيت مخزنة على الرفوف تتآكلها الرطوبة، ولم تبرُز للناس ولم توزع على جمهور المتخصصين والمستعملين. ولعل وسائل التكنولوجيا الحديثة قد تخرجها إلى العموم في صيغة إلكترونية أو مُحَوْسَبة.

بالإضافة إلى ذلك، تكاثرت المجامع اللغوية في البلدان العربية، كل يعمل منعزلا، متجاهلا ما عداه، ولكل منهجه الخاص. إننا نرى كثرة من المجامع اللغوية تتوزع في الوطن العربي، ونشاهد جهودا تتشتت ومناهج تختلف. ولعل الوقت قد حان للتفكير في خلق مجلس عربي أعلى للتعليم يمثل المجالس القُطرية للتعليم في العالم العربي، يضطلع بمهمة التخطيط المحكم للبرامج والمناهج المشتركة، ويواكب بانتظام تطور العلوم وتقدم التقنيات، ويقرر في سياسة التعريب والترجمة، ويعمل على نشر وتوزيع أعماله على الجامعات العربية، ويكون جسرا بين أهل العلم وأولي الأمر في الوطن العربي.

عبد العزيز المطاد