" إن الفيلسوف هو الذي يقضي حياته كلها وهو يتساءل، هل هذه المحبرة موجودة أم لا."

ما المعرفة؟ لماذا يمكن أن نجد باحثين أو عالمين في حدث علمي واحد وفي وقت واحد، وهم مختلفون 180° حول نفس الموضوع؟ أيهما يملك الحقيقة ؟ ثم أيهما يجب أن يتبع المشاهد أو المستمع من الحاضرين؟ الأكيد أنه يأخذ من الاثنين، ليبني لنفسه رأيا ثالثا. ولكن، كم عدد الحاضرين في الندوة أو أي حدث آخر؟ المئات على الأرجح. إذن كل واحد منهم سيخرج برأي خاص. مرة أخرى، من يملك الحقيقة؟ لا أحد طبعا. هل توجد الحقيقة أصلا في هذا العالم على الأقل؟ لماذا يمكن أن نجد كتابين في نفس الموضوع، وكل منهما يدافع عن أطروحة أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تنسف الأخرى نسفا من جذورها؟ هل يمكن تفسير كل هذا التناقض بالعبارة المشهورة "كل شيء نسبي". أليست النسبية وليدة الماضي القريب فقط؟ هل المعرفة كل متكامل، لا يمكن استيعابها إلا كاملة، وبالتالي فبعضها يبرر ويعلل ويعزز صحة البعض الآخر؟ أم إن كل نظرية تستطيع الصمود لوحدها؟ هل يستطيع العالم العيش بنظرية واحدة؟ لماذا لا يقطع العالم مع ما تبين أنه خاطئ؟

لماذا يعيش العلماء في مجتمعات متخلفة؟ ألا تملك المعرفة سلطة التغيير؟ كيف يمكن الاستمرار في تبني ما تم دحضه؟ 

لماذا يأتي كل قرن بجديد على مستوى الاكتشافات العلمية؟ لكن ما جدوى أن تعيش البشرية قرنين متشابهين، وبنفس الاقتناعات؟ ألا يقول السوفسطائيون ب"أن لا الإنسان لا يستطيع أن يسبح في النهر مرتين".

سنستعين هنا بفقرة من "مطالعات علمية" لمصطفى علي مشرفة أحد تلامذة أينشتاين، في سبيل إعطاء مثال على هذا الذي نقول. حيث يقول بأن الكون في نظر علماء القرن التاسع عشر، هو عبارة عن آلة هائلة تشتغل طبقا لقوانين ثابتة. هذه الآلة مصنوعة من المادة التي لا تقبل الخلق ولا الفناء، ويقوم بالمادة أو ترتبط بها حالات كالحرارة وغيرها، والتي لا تعدو أن تكون مظهرا من بين أخرى كثيرة لشيء واحد وهو الطاقة. وهي مثلها مثل المادة لا تقبل الخلق ولا الفناء. ومهمة العلم هي معرفة القوانين التي تنظم سير الآلة والتي تربط الطاقة بالمادة. لقد كادت هذه الفلسفة أن توسم وتوصم بصفة الكمال، لولا بعض العيوب التي كانت تشوبها. وهنا نقف أمام احتمالين: إما أن تندثر هذه العيوب تدريجيا حتى تختفي. أم أنها تتسع وتتعزز بأخرى، إلى أن تصبح ثغرات حقيقية لا يمكن تجاهلها؟ الاحتمال الأول لم يكن ربما حتى مشروعا، فالقليل من العقلانية والتفكير السليم كفيل باقتلاعه، ذلك أن التغير والتطور من صفات العالم. إننا نجد أنفسنا إذن أمام حتمية تبني الاختيار الثاني. أي أن تلك العيوب لا تملك خيارا آخر سوى أن تتحول إلى ثغرات حقيقية. 

إن هذا العيب، يقول الدكتور مشرفة، هو: ما مكان الضوء في هذه الفلسفة؟ فمعلوم أن الإضاءة والاستضاءة حالتان تقومان بالمادة، وإذن فالضوء من نوع الحرارة والكهربائية. ومعلوم أن الحرارة قد تتحول إلى ضوء كما يحدث في المصابيح الكهربائية. إن الضوء إذن مظهر من مظاهر الطاقة. تماما كمظاهر الطاقة الأخرى. لكن الأمر المحير هنا، هو أن الضوء ينتقل في الفضاء العاري عن المادة. فالضوء إذن قائم بذاته مستقل عن المادة ولا يمكن أن يوصف بأنه حالة من حالات المادة كالحركة مثلا.

إن شأن هذه الأشعة الضوئية هو نفسه شأن الكثير من أنواع الأشعة الأخرى، إذ كلها تنتقل في الفضاء العاري عن المادة، إن لها إذن استقلال ذاتي لا يتوقف على وجود المادة. من أين يأتي هذا الاستقلال؟ هكذا كان السؤال الذي أقلق العلماء أيما قلق. ما دفعهم بالتالي إلى افتراض وجود نوع خاص من المادة سموه الأثير، لكي تقوم به هذه الأشعة. خاص لأنه ليس بالمادة التي نعرفها، بل يختلف عنها بكونه يتميز بخاصية التكيف بحيث يصح أن تقوم به حالة كحالة الضوء أو حالة الحرارة.

لا يجب على القارئ الكريم أن يعتقد أن هذا آخر ما تم التوصل إليه، فالكثير مما كان يعتبر في هذه الفترة غير البعيدة من المسلمات، تم تجاوزها الآن وأصبح موضع تساؤل. فمع التقدم في فهم الذرة وتركيبها، انقلب الموقف وأصبحت المادة حالة تقوم بالكهرباء بدلا من أن تكون الكهرباء حالة تقوم بها المادة. كما أن قانون بقاء المادة قد اتضح أنه غير صالح مع الوقت، ولن نغامر بالخوض في التفاصيل كثيرا، كي لا نقع في العار ونقع فيما ندعو إلى عدم اقترافه. كما أن هذا المثال عن التطور الذي شهدته الفيزياء في إحدى حيثياتها على الأقل كفيل بأن يعطي المشروعية اللازمة، للسؤال التالي: هل ما كان يعتقده علماء القرن التاسع عشر حول المادة والطاقة والضوء، خاصة بعد أن تم تجاوزه، كان معرفة، وهل يجب أن نستمر في اعتباره كذلك؟ ثم أليست آخر الاكتشافات العلمية اليوم، قابلة للتفنيد والدحض يوما ما؟ إذن ما الذي يجعلنا نعتبرها معرفة صحيحة؟ أم أن كل معرفة، إن صح التعبير، لديها تاريخ صلاحية، لكنه غير محدد؟

إن الكثير من هذه الأسئلة التي استشكلناها، والتي قد نصوغها في سؤال واحد جميل، وهو: أين الحقيقة؟ وهو سؤال يستطيع الجميع أن يطرحه، لكن أكيد أن لا أحد يستطيع الإجابة عليه. وهي مفارقة انتبه إليها الفيلسوف الألماني كانط، وقال إن العقل بطبيعته ينتج أسئلة يعجز عن الإجابة عنها. لكن إلى متى سنبرر قصور العقل البشري عن التصدي لبعض الأسئلة الملحة بهذه المقولة الكانطية. هل المنطق الذي نسجت به هذه العلاقات هو منطق صحيح؟ الأكيد لا. من يستطيع أن يقوم بذلك أفضل مني؟ الملايين ولا شك. من منهم يملك الحقيقة الكاملة؟ لا أحد طبعا.

لماذا يمكن أن نجد من لم يطرح هذه الأسئلة أبدا؟ بل ويشعر أنها تافهة وهو يقرأها الآن. هل هو على حق؟ أم نحن الذين على حق؟ لا أحد طبعا. لأن هذا الشعور قد يختلف من شخص إلى آخر. فالمراهق لا ينظر إلى هذه الأسئلة كالراشد كالشيخ... كما أن نظرة العالم إليها تختلف مع من يفوقه علما... ولنذهب أبعد من ذلك ربما. لماذا أشعر أني سأتجاوز الكثير من هذه الأسئلة في المدى القريب أو المتوسط أو البعيد. إذن، أين المعرفة؟ أهي ما أملك الآن أم ما سأملك بعد خمسين عاما؟ّ؟؟؟ أم إن المعرفة تكمن في الوعي بهذه الخاصية للمعرفة، أي التغير الذي لا يمكن التنبؤ بمساره؟.

 



محمد ادالطالب