المؤكد أن زمن السياسة الحكيمة في المملكة العربية السعودية، قد توقف مع مجيء ولي العهد محمد بن سلمان، فليست السياسة الخارجية وحدها انقلبت كل هذه الدرجة، وإنما حتى التوجه الداخلي للمملكة تغير في ظرف وجيز، من توجه قائم على مشورة رجال الدين إلى توجه ليبرالي، وفق التوصيف السعودي، أو علماني وفق المتعارف عليه. وهي علمانية لا نحبذها لأنها ذات طبيعة متطرفة عن قيم المجتمع السعودي الخليجي المحافظ والمتدين في عمومه. ولأنها علمانية لم تقم على أساس بُني على تجاذب فكري وسياسي، وإنما لأنها نتاج لحظة عابرة، فرضها شاب قليل الخبرة، بقرار انفرادي، وذلك إرضاء للغرب؛ أميركا أولا ثم إسرائيل في المقام الثاني والاتحاد الأوروبي أخيرا.

هذه السياسة الجديدة، العرجاء والمتسرعة، خلقت أزمات داخلية سيكون لها بلا شك تداعيات سياسية كبيرة على الأمد القريب، على السعودية خارجيا أكثر مما ستُسهم في تلميع صورة المملكة، التي هي ليست بحاجة إلى تلميع، بقدر ما هي في حاجة إلى إصلاح داخلي يقوم على العدالة وبإحياء القيم التاريخية والحضارية الضاربة في عمق التاريخ لهذا المجتمع الأصيل، بالشكل الذي يُذكي روح العروبة والإسلام في هذا البلد الذي يحظى بمكانة استثنائية داخل العالمين الإسلامي والعربي، على أُسس حديثة عصرية، ترفع من مكانة المملكة دون أن تجعل منها مسخا هوياتيا.

سياسة ولي العهد السعودي الحالي، لا يُمكن وصفها إلا بأنها بلاء ابتلي به المجتمع السعودي ذو الروح الطيبة والثقافة العالية، كما ابتليت به المنطقة التي تشارك المملكة نفس وعاء الحضارة العربية والإسلامية.. فبعد الخلاف مع قطر التي شاءت الأقدار الإلهية أن تحول دون أن تتطور إلى وضع غير محمود، وهي أزمة استفاد منها البلد الصغير بشكل كبير وعلى عدد من الأصعدة لا تتسع الصفحة لذكرها، ودفعته إلى الرفع من علاقته الجيدة مع إيران، ونتمنى أن تشهد الفترة القادمة تغيرا ايجابيا في العلاقات مع الجوار وسورية بالتحديد، بغض النظر عن حجم الخلافات، مادامت مصلحة الشعب العربي تقتضي ذلك.

اختلاق محمد بن سلمان للأزمات الخارجية مع الأقطار العربية، امتد إلى لبنان باحتجاز السلطات السعودية لرئيس مجلس الوزراء اللبناني  سعد الحريري في واقعة غير معهودة في تاريخ العلاقات الدولية الحديثة. وبعد سلسلة من المناوشات مع المملكة العربية المغربية، تعاملت معها الرباط بطريقة لم تتعامل بها مع فرنسا التي كانت حتى وقت قريب أهم مستثمر مالي في المغرب، و"داعم" له في قضية الصحراء، عندما تعدت سلطات باريس حدود اللياقة الدبلوماسية مع ممثلي الدولة المغربية، في واقعتي تفتيش وزير الخارجية ومحاولة توقيف مدير المخابرات، المغربيين، على التراب الفرنسي. وموقف المغرب من الأزمات التي افتعلها ولي العهد بن سلمان، أو تمت بتسهيل منه، يُبين مكانة السعودية في السياسة العامة للمغرب، ونحن نتحدث عن بلد، العلاقة معه لم تبدأ خلال المائة عام الأخيرة، وإنما هي علاقة ضاربة في عمق التاريخ، تداخل فيها ما هو عرقي بما هو ثقافي واجتماعي وديني ولغوي، وهي علاقة لا يمكن اختزالها في المظاهر الدبلوماسية والمصالح السياسية والمالية فقط.

تعليق السفير المغربي بالسعودية على استدعائه إلى الرباط، لم يأتي فيه أي جواب على حجم التشنجات بين المملكتين، لكنه في المقابل كان صادقا عندما اعتبر أن الأمر يتعلق بسحابة عابرة، فالعلاقة بين البلدين قد تتأثر وتبرد، لكن ذلك لا يعني أنها قد تصل إلى حد القطيعة، خاصة أمام هذه التغيرات التي تشهدها السعودية والتي تسير في منحى تصاعدي في اختلاق الأزمات مع أشقاءها العرب، بمناسبة ودون مناسبة، وكلما ضاق عليها الوضع في المنطقة.

المؤكد والثابت، هو أن الأزمة بين البلدين لن تصل بكل تأكيد إلى حالة القطيعة الدبلوماسية، ولكن ذلك لا ينفي عمق الخلاف، وهو خلاف مرشح لمزيد من التصاعد في ظل الأوضاع التي تمر بها السعودية على عدة مناحي، سواء ما يتعلق بقضية مقتل جمال خاشقجي، وهو الملف الذي تحول إلى وسيلة ابتزاز بيد عدد من الفاعلين الدوليين وآفاقه مفتوحة على جميع الاحتمالات بما فيها تلك الأكثر استبعادا، إلى جانب الضغوط التي تتعرض لها السعودية، منها حربها في الجبهة اليمنية التي أنهكتها ماليا وعسكريا وحتى معنويا، والقلق المتزايد داخل الدوائر السياسية في الرياض مما تعتبر أنه تهديد إيراني. هذه الاكراهات، يحاول الحاكم الفعلي (ولي العهد) معالجتها بسياسة غير حكيمة، وهي سياسة تقوم على تصريف الإحساس بالتفوق المالي والإعلامي الغارق في الذاتية، تجاه الأشقاء والحلفاء العرب.

المغرب في معالجته للأزمة، تعامل وفق مبادئ الحكمة والمرونة، وتجنب أي تصعيد مع بلد، يتغير فيه الحكام والمسؤولون والوجوه السياسية، لكن لا تتغير العلاقة والروابط المتأصلة بين البلدين، وهذه الحكمة في السياسة الخارجية أو الدبلوماسية المغربية، تخفي في طياتها نقائص يتوجب على الرباط، معالجتها وتداركها في أقرب وقت. ورغم أن حضور المغرب في الساحة العربية لازال له تأثير جيد، كلاعب له وزنه، بيد أنه منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني، لم يستقر المغرب على توجه ثابت في علاقاته الخارجية، فبعد سنوات ضيعها أملا في تحقيق وهم هو حلم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، رغم الفوارق الكبيرة في جميع المستويات، وبعد وصوله إلى الباب المسدود، وبعد عدة سنوات فيما يُسمى وضع الشريك المميز مع بروكسل، ها هو يعود بقوة إلى الاتحاد الأفريقي، رغم تجربة الخُذلان التي دفعته قبل 35 سنة إلى الانسحاب من "منظمة الوحدة الأفريقية"، فلا أحد ينكر أهمية عودة المغرب إلى هذا التكتل القاري، والذي يشكل طريقا نحو النمو الاقتصادي والتحرر من التبعية الاقتصادية خاصة لفرنسا، غير أن ذلك، لا يجب أن يُخفي الحقيقة الكبرى، وهي أن المغرب له روافد في أوروبا وأفريقيا، إلا أن عمقه الحقيقي وجذوره ومنبع ثقافته وعمقها وتاريخه وانتماءه المتأصل هو للوطن العربي، وأنه رغم كل ما يُستجد من أزمات، غير أنه في الأخير ليس له حلفاء غير الأشقاء العرب. وبناء الحضور الوازن لا يمكن أن يكتمل إلا بالعودة بقوة وبجدية إلى الساحة العربية، على جميع المستويات، سياسيا ودبلوماسيا وثقافيا وغيرهم، وهنا يتوجب على دوائر القرار في المغرب أن تؤمن بأن وحدة الصف العربي شعبا وأقطارا في ظل المؤامرات التي تحاك لأقطار وطننا العربي، والهادفة إلى التقسيم الترابي والطائفي والهوياتي، لارضاخ الحكومات لسياسة الأمر الواقع، والانبطاح تحت أقدام الهيمنة الصهيونية باسم تطبيع العلاقات، وتحت بنود النسخة الجديدة من مشروع الشرق الأوسطية، تحت مسمى "مشروع السلام في الشرق الأوسط" أو ما يعرف بصفقة القرن، وهو سلام المنهزمين الأذلاء.. على القائمين على الشأن في الرباط تجديد العلاقات مع جميع الأقطار العربية وعدم الاكتفاء بالتركيز على العلاقة مع المملكة العربية السعودية فقط، وأن يُبادروا باقتراح الحلول لأزمة الجمود السياسي على مستوى جامعة الأقطار العربية والدخول في وساطات بينية، وإذا كانت الدار البيضاء والرباط وفاس شهدت قمما مؤثرة، فانه بإمكان التاريخ أن يكرر نفسه، في إطار قمم ومنتديات سياسية ودبلوماسية واقتصادية تعيد للأمة العربية أملا في الحياة، وهو الأمل الذي لا مفر من البحث عنه.  



 نبيل بكاني