صدرت  رواية مروج جهنم للكاتب العراقي حازم كمال الدين عن دار فضاءات للنشر والتوزيع بالأردن، صدرت الرواية في الحجم الصغير كما دأب الكاتب مع نصوصه الروائية السابقة، وهو أمر  يستقصده  الكاتب لأنه يؤمن بأن العلاقة بين النص السردي والمتلقي يجب أن لا تكون علاقة تعذيب وضجر.

في البدء كانت جهنم حيث تتكرر جهنم في العديد من السرديات العربية، ما الحمولة التي تحبل  بها هذه الكلمة لتكون عناوين موحدة لسرد الواقع المعاش حقيقة او متخيلا؟؟؟؟؟ ربما أن الواقع العربي لا يعادله في بشاعته سوى جهنم بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني التعذيب والقهر والخلود أيضا. تتقاطع جهنم في نص حازم كمال الدين مع مروج، وهي علاقة ملتبسة ومتناقضة، توحي بأن الرواية تذهب بعيدا في غرائبية الوصف لواقع اشد غرابة وشذوذا.

تستهل الرواية بالإعلان عن هدف الكاتب والنص معا والتمثل في الخروج عن القوالب الجاهزة فنيا ومضمونا، فمنذ الاستهلال يعلن حازم كمال الدين عن مسلكه الوعر الجديد: "الصراط المستقيم نحو الحرية". إنه إعلان عن التحرر من كل أشكال القوالب الجاهزة بدءا بتقنيات الكتابة، وانتهاءا بالانفلات من الموت مرورا بهتك الأسرار الإيروتيكية للعلاقة الجنسية بين العقيد والبطلة.

من يطلع على بعض شذرات من حياة المسرحي والروائي العراقي حازم كمال الدين المقيم ببلجيكا، يتملكه شعور بأن سوادا وغموضا يلف حياته وإبداعاته  على حد سواء، فحازم كمال الدين يتقاطع مع المعري ودانتي في كل من رسالة الغفران والكوميديا الإلهية وهو ما لمسناه في أعمال كمال الدين الروائية السابقة –كبارهيت، ومياه متصحرة، غير أننا في مروج جهنم سنجد أنفسنا إزاء مسرح مغاير وأحداث مختلفة تدور هذه المرة حول فعل الولادة وليس الموت، والذي يمكن القول بأنه هنا  أيضا  أصبح رديفا للموت، هكذا يدفع الكاتب بفعلي الموت والولادة إلى قمة التراجيديا، بل إنه هنا يسائل فعل الوجود والعدم. وهي تيمة إبداعية يمكن القول أنها تغيب أو تظهر بشكل سريع وباهت في السرديات العربية، سواء منها السرديات النسائية أو الرجالية إن صح التعبير. وهي مشاهد توفق الروائي حازم كمال الدين في وصفها وسردها على لسان الراوية / البطلة داليا رشدي، بشكل مفصل ودقيق.

 مع ذلك يمكن ان نتساءل كيف استطاع الروائي حازم كمال الدين وعلى لسان البطلة داليا رشدي  أن يحكي بكل دقة عملية الولادة، ؟

الربط الذكي بين عملية الولادة وفعل القتل في الرواية، وكأنهما فعلان يفضيان لنفس المصير، إنهما نتاج الحرب المستعرة، ونتاج فانتازيا السياسة المتبعة.  سواء أراد الكاتب الحديث عن عراقه المفتقد بعد منفاه القسري، أو عن العالم القديم سنة 1833 فهو يحيلنا على أن الإنسانية رغم عقود من القضاء على عبودية الإنسان الأسود إلا أنها ما تزال تعاني من الرق هذه المرة متمثلا في نضال النكاح العقائدي كما جاء على لسان الراوية/ البطلة داليا رشدي.

فإذا كان الروائي حازم كمال الدين يستشرف المستقبل في رواية كباريهت والذي يحدده في سنة 2030 فإنه في نصه الجديد يفاجئنا في نهاية الرواية بتاريخ يعود بنا بعيدا في الماضي حتى سنة 1833، وهي تقنية تتماشى مع خطه الغرائبي ولكن الرمزي في نفس الآن. فلربما مازال الطريق طويلا أمام الإنساينة لتحقيق الحرية والعدالة.

لعل الروائي حازم كمال الدين يسائل على لسان داليا رشدي الراوية والبطلة واقع المجتمعات الذكورية حيث الرجل حاكما ومحكوما عبيد نرجسيته الجنسية وأهواءه الشاذة. هكذا يضعنا سرد مروج جهنم أمام مشاهد صراع ومعارك رملية وفراشية، تلتقي لتجعلنا أمام رواية رمزية بامتياز ساخرة من المعارك المفتعلة التي لا تبقي على شيء سوى الدمار. مثلما هي معارك العقيد على فراش البطلة التي لاتنتج ولادة بل سوى موتا مؤجلا.  هكذا تصبح الحروب مصيرا محتوما بفعل التمويه الإعلامي واللعب بعقول الشعب لتقبل ضراوة المعارك والخسائر البشرية والمادية.

مروج جهنم  نص يضعنا أما تقنيات عالية في الكتابة تلغي الحدود بين السرد الروائي والركح المسرحي  وفانتازيا الحكواتي، وهو أمر ليس بغريب عن كاتب هو بالأساس رجل مسرح يتقن جيدا تقنيات الإخراج المسرحي. فحازم كمال الدين يشتغل على تقنيات المسرح منذ أكثر من ثلاثين سنة حيث حاز جوائز هامة تشهد له بمستواه الرفيع في مجال المسرح على المستوى العالمي.

استخدم الكاتب أيضا تقنية التناص وهي تقنية تستدعي نصا يتميز بكونه كما تقول الناقدة جوليا كريستيفا: " فضاء متداخل نصيا، وانه مجال لتداخل عدة شفرات، تجد نفسها في علاقة متبادلة وامتصاص لنصوص متعددة ومن تم هدمها"  . وهو ما يتراءى لنا في  رواية مروج جهنم حيث ما فتئت تتكرر عملية التناص عبر مقاطع هامة من نص الرواية، خاصة ما تعلق منها باقتباس من القرآن،  فالنص الماثل أمامنا ما هو إلا نتاج لتداخل نصوص عديدة في ذاكرة الراوية / البطلة .داليا رشدي، وهو ما يوحي بعبقرية خفية استطاع من خلالها الروائي حازم كمال الدين أن يوظف عملية التناص في حبكته الروائية. فهو يستدعي في مقاطع عديدة تعابير قرآنية :  " أثناء ذلك رمت الطائرات متراسا بحجارة من سجيل فأحالته عصفا مأكولا وحلقت من جديد بمحاذاة سقف الغرفة" .

تختزن ذاكرة حازم كمال الدين صورا متعددة عن الحروب والدمار والقتل والإغتصابات السياسية والجسدية والفكرية التي عانى وما يزال يعاني منها العراق وطن الكاتب المختزن بالذاكرة حيث يعيش منفاه الاضطراري منذ أكثر من ثلاثين سنة. وفي روايته مروج جهنم يتراء لنا هذا الواقع المؤلم بشكل غرائبي وفانتازي من خلال وصف عملية الولادة وما يتبعها من وأد للفتيات المولودات حديثا وهي رمزية عالية من الروائي توحي بأن الثورات تجهض في مهدها. وفي المقابل يدفع العقيد وجنوده بالأطفال الذكور إلى جبهات القتال منذ ولادتهم. وأد المولودات يوحي أيضا إلى أن واقع حقوق المرأة العربية مجهضة منذ انبثاقها، فهي ما تزال تحت رحمة العقلية الذكورية في شتى المجالات الأدبية، الفكرية والاجتماعية والسياسية بل والوجودية أيضا. 

ولعل اعتماد الروائي على الحكي على لسان السارد الأنثوي ينم على مجاراة ما أصبح يعرف بالكتابة الأنثوية أو رد الاعتبار لأول ساردة في التاريخ الأدبي النسائي شهرزاد، وهو أيضا التفاتة ذكية من الكاتب لرد الاعتبار للسرد الأنثوي ضمن السرديات العربية.  هكذا يصر الروائي حازم كمال الدين على منح داليا رشدي في كباريهت وداليا رشدي في مروج جهنم، صوتا مسموعا ومحوريا في السردين انسجاما مع رؤيته المستقبلية التي ربما تأتي بمستقبل مغاير على يد المرأة. 

من التيمات الجديدة التي وظفها الكاتب حازم كمال الدين كما هو دأبه  البحث عن التقنيات الجديدة والمواضيع الآنية، يتعلق الأمر بظاهرة جهاد النكاح حيث تضعنا الرواية وعلى لسان البطلة والراوية داليا رشدي. 

في مروج جهنم ينفتح النص على أحداث غرائبية ويطرح أسئلة تستعصي على كل الإجابات الممكنة والمستحيلة، فالكاتب لا يرنو إلى البحث عن الحلول والتفسيرات الجاهزة، بل يروم إشراك القارئ في عملية الحكي من خلال إعمال فكره من اجل البدائل الممكنة لأنها ليست من مهام المبدع الكاتب.

 

مروج جهنم أخيرا هو نص غني بإشارات ذكية لكل ما يمت للواقع المعاش في القرن 21 رغم تمويه من الكاتب في نهاية النص بذكر سنة 1833 ، فإضافة لجهاد النكاح، هناك النفاق السياسي المستشري في العديد من الأنظمة الديكتاتورية:" "كلمة الاشتراكي" العقائدية اخترت لها هذا المعنى: " دحرج كذبة صغيرة وكررها حتى يصدقها الناس""  . فإذا كان حازم كمال الدين في روايته كباريهت قد كفر بالشرق والغرب معا باعتبارهما وجهان لعملة واحدة ألا وهي الاستبداد، فإنه هنا وعلى لسان الراوية داليا رشدي يدين الواقع المعاش ويحيلنا بأنه لا يختلف عن واقع العبودية في زمن مضى ولم ينته  رغم صدور  قانون يمنع الرق في ابريطانيا  سنة 1833.

 



 فاطمة واياو