أثر انهيار المناعة الثقافية في نشأة العنف الإرهابي مغربيا

ماذا تُجدي المقالات إزاء الدم المهدور: دم شابتين مسالمتين، بريئتين، حلَّتا ضيفتين على شعب ألِفَ، خلال تاريخه المديد، الاختلاط السلمي إلى أن كان ما كان... إلى أن صار ما ليس هو: ما لم يكن. يقينا "إن الناس لا ينقرضون لكنهم يتبدلون شعبا آخر" (طوبي ناثان). كلما استعرضت في خيالي شريط ما جرى للفتاتين الأجنبيتين الآمنتين في ظُلمة ليل "إمليل" (الأبيض بالأمازيغية!) أُرْتُجَّ علي وغادرتني اللغة: وهل تقوى اللغة على قول هذا "الهُوَ" المطلق الذي حلّ فينا والذي لا يجوز معه غير الصمت بَهْتا وخِزيا؟

لكن وهذا قدرنا فلا مناص لنا من اللواذ باللغة، لا احتماءً بها من الغول الذي نزل فينا ولا ترويضا له ولا تطبيعا بتفسيرات هي أشبه، رغم الاحترازات، بالتبريرات. بل فقط لأن الصمت، ولو من الحرج، مشاركةٌ في الجرم؛ فلا أقل من الانتصاب شهودَ عيان ولو من باب المساعدة على تشخيص الجريمة.

كرونولوجيا تسرب وانتشار ثقافة العنف الديني

فلْنتعقّبْ أثر الغول: من أين أتى؟ وكيف استقر وتربى؟ وكيف تكاثر واستقوى، حتى صار يتطلع إلى الاستفراد بالدار؟

والواقع أنه، خلافا لما قد يُتوقع، ليس على من يريد أن يتتبع أثر خطى الغول أن يعود القهقرى بعيدا لكي يتعرف على أولاها؛ وهي ليست على طريق الاقتصاد ولا الاجتماع ولا تحولاتهما، أو ما يسمى بالعوامل الاجتماعية-الاقتصادية، كما يحلو للذين في أعينهم حَوَل أن يرددوا.

فلا يحتاج المرءُ إلى أن يكون مؤرخَ عقلياتٍ لكي يرصد كرونولوجيا ظاهرة العنف الديني بشتى صوره: نشأةً وتمكنا وانتشارا؛ إذْ يكفي لمن عمّر بعض العمر أن يرْتَدَّ بذاكرته إلى أواخر سبعينيات القرن العشرين وبداية ثمانيناته كي يتذكر كيف كانت الحياة الدينية للمغاربة قبل تلك الفترة وكيف صارت بعدها لدى فئة معتبرة منهم: فمن دين النجاة القائم على الرجاء في الخلاص الأخروي بعد حياة أرضية عنوانها النقصُ والفناء إلى دين إرادة التحكم والتسلّط اجتماعيا، ثم شَرْعَنة العنف ضد المختلف والمخالف بما هما كذلك، لا لِجُرْم اقترفوه. فماذا جرى ويجري منذ تلك اللحظة الفارقة في تاريخ الثقافة الدينية للمغاربة؟

إن الجواب عن هذا السؤال لن يقتضي منا اجتهادا ولا بحثا خاصين: فقد سبقنا إليه غيرُ واحد من المهتمين بتاريخ التحولات الثقافية في المغرب المعاصر تخصُّصا أو اهتماما فكريا. فقد أفضى التدافع السياسي والايديولوجي خلال تلك الفترة من تاريخ المغرب إلى أن فتحت الدولة الباب واسعا أمام الفكر الديني الوهابي ضاربة ضربتين بحجر واحد: الحدُّ من تأثير الفكر اليساري بمختلف تجلياته في الفئات المتعلمة من الأجيال الجديدة، من جانب، ومواجهة المد الثوري الايراني في العالم الاسلامي جرّاءَ الرجة التي أحدثها نجاح ثورة الخميني عام 1979 في ذلك العالم، من جانب آخر.

وقد أفلحت استراتيجية الدولة هذه فلاحا تجاوز المنتظرَ منها وصار يهدد كيانها ذاته، فضلا عن التماسك الاجتماعي والثقافي للجسم المغربي عامة. فانتشر التعصب المذهبي والعنف الديني انتشار النار في الهشيم مستفيدا من الظروف الملائمة التي وفرتها الدولة: من ضرب للفكر التقدمي الوافد وإهمال وتخريب للثقافة الوطنية الأصيلة بعدم تمكينها من التعبير عن ذاتها وتنمية مواردها ورصيدها من القيم الايجابية بالوسائل والأدوات المؤسَّساتية، مع تسفيهها باختزالها في فلكلور فج مُنْبَتِّ الجذور؛ هذا مع التمكين للفكر الديني المتطرف المستقوي بالبترودولار السعودي السخي ضمن تشكيلة جيو-استراتيجية كانت المملكة العربية السعودية تصارع ضمنها من أجل البقاء، في فضاء كانت فيه محاصَرة من قِبَل قومية عربية تجسدت في أنظمة شمولية تحركها دوافع عدوانية هيمنية من جانب، ومد ثوري شيعي بدا في سنوات الثورة الأولى بمثابة ثورة شعبية على نظام استبدادي فاسد، مما جعله يجد صدى لدى كثير من الشعوب الإسلامية المقهورة، من جانب آخر.

الثقافة المغربية تقاوم الزحف الوهابي

ذلك إذن هو السياق الذي غزا فيه الفكر الديني المتشدد بلادنا؛ فلما حل "البارابول" ثم بعده الأنترنيت وجد مروجو هذا الفكر، على اختلاف درجاتهم في التشدد، البيئةَ الذهنية المستعدة لاحتضان فتاواهم المحرضة على العنف المقدس، الذي صار المعيارَ في الالتزام الديني. وقد أبدت البادية المغربية مقاومة شرسة لهذا الفكر الدخيل. وتمثلت تلك المقاومة في طرد الدخلاء من مروجيه الطارئين عليها، وفي مقاطعة من بدا عليه الميل إلى مذهبهم من بني جلدتهم. هكذا انتصبت القرى والبوادي المغربية سدا منيعا في وجه الطلائع الأولى للفكر الوهابي متمثلة في العناصر التي بثها تقي الدين الهلالي، الذي تكفل مُناوَلَةً بنشر المذهب، في ربوع مغرب الشرك والبدعة والكفر والجاهلية...

كان ذلك زمنَ كانت الثقافة المغربية الأصيلة ما تزال تقاوم الاختراق، معتمدة على مواردها الذاتية العريقة الراسخة في الزمان والمكان والإنسان، دون سند من مؤسسات تحتضنها وتعزز قدراتها، ولا من نخب وطنية واعية بهويتها، متشبثة بأصالتها، مترجمة ذلك من مواقع مسؤوليتها في دواليب الدولة على اختلاف أصعدتها...

الضعف والاختراق

لكن للمناعة الذاتية حدودها – في عالم مُعَوْلم – ما لم تُوفَّرْ لها شروط المقاومة التي تتناسب وضراوة الحرب المفروضة عليها. فكان ما لم يكن منه بُدّ، فضعفت المناعة الثقافية للمغاربة، واخترق فيروس العنف الديني الجسد المغربي، حتى أصبح يهدد تماسكه الداخلي فضلا عن سمعته في الخارج.

هكذا دخل الشباب المغربي في البوادي والقرى ومدن الصفيح التي تطوق المدن الكبرى في اتصال يومي مع نصوص من التراث الديني تحض على العنف المقدس ضد المخالفين والمختلفين في الداخل والخارج، ضمن حركة إيديولوجية تسعى إلى استئناف ما بدأه "السلف" في قتال "الكافر" و"المبتدع" و"المرتد"، باعتبار القتال في الدين فرضا على المسلم المستطيع، لا يتخلف عنه إلا رقيق دين أو منافق.

وقد أعْمَلَ بعضهم هذا "الفرض" في الأصول والأقارب والجيران بادئَ الأمر على سبيل التدرُّب، فكفّروا وبدّعوا وعنّفوا وقاطعوا الآباء والأقرباء والجيران، وانتظموا جماعات صغيرة تعد نفسها من "الفئة الناجية". وبعد مرحلة "الجهاد الأصغر" هذه جاءت مرحلة "الجهاد الأكبر" مع أجيال جديدة تلقت تلك التعاليم ضمن سياق جيو-استراتيجي جديد صار فيه العالم كله "دار حرب" وجَبَ جهادُ أهلها. فانتظم عدد كبير من الشباب المغربي في منظمات دينية إرهابية عالمية من قبيل "القاعدة" أوّلا، ثم "داعش"، أو "الدولة الإسلامية"، حتى إذا ضاق الطوق عليهما ومُزِّقَتا كلّ مُمَزّق أفتى مُفْتوه بِخَصْخَصَة الجهاد وطَوْطينه: فحُقَّ "للمجاهد" أن "يجاهد" مَنْ حوله ممن ليسوا مثله في أي مكان وبأي عتاد.

وكذلك كان. فصار الإعلام يتحدث عن "ذئاب منفردة" وعن "إرهاب بالمناولة" (sous-traitance)؛ وصار المارة والمتسوقون والسواح، بل والعاكفون في المساجد والكنائس والمعابد، أهدافا "شرعية" "للمجاهدين"، وأصبح الخنجر والشاحنة والسيارة سلاحا لهم في حربهم على "الكفار". فكانت "مَوْقِعَة" إمليل الحلقة المغربية ضمن سلسلة متواصلة من الدَّهْس والذبح والتفجير باسم الله والله أكبر في كل أرجاء العالم.

تكتيكات التنسيب والانكار

لم تكد دماء فتاتي "إمليل" البريئتين تجفُّ حتى عاد التنسيبيون (من النسبية) من كل نوع ليخلطوا الأوراق ويُلبسوا الحق بالباطل، مشنِّعين على المتضامنين مع أهلهما وشعبيهما صمتَهم عن ضحايا جرائم الحق العام ذات الأسباب العاطفية أو الراجعة إلى خلافات بين الأشخاص أساؤوا تدبيرها، غاضّين الطرْف عن الوازع الديني الايديولوجي الذي كان وراء الجريمة المذكورة، محتمين بالآلية النفسية المتمثلة في الانكار وسيلةً لتفادي مواجهة الواقع: فالذين اقترفوها ليسوا – في زعمهم-مسلمين ولا مغاربة.

هذا موقف بعض العامة وأشباهها من مرتادي شبكات التواصل الاجتماعي وغيرهم، إما عن حسن نية تجعلهم لا يتصورون ولا يقبلون أن يُنسب إلى دينهم ما يخدش صورته المثالية في أنفسهم، أو عن نزعة كلبية استهتارية لا تقيم للقيم وزنا.

ما لم يدركه الأستاذ الكنبوري

ولا يبعد عن هذا الموقف الانكاري الذي ينفي "مسؤولية التراث الإسلامي في إنتاج العنف" موقفُ بعض كتاب الرأي الذين يمكن اعتبار الأستاذ الكنبوري ممثلهم الرسمي؛ إذ يرى أنه "بدل التساؤل عن مسؤولية التراث الاسلامي في إنتاج العنف، يجب التساؤل عن مصدر نزعة العنف الجديدة ومسؤولية التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في إنتاجه".

وللوقوف على جهازه الاستدلالي، أثبت أدناه النص الذي يتضمنه كاملا على طوله:

"إننا لا ننكر أن في تراثنا الديني عناصر منتجة للعنف بكل بساطة لأن أي تراث إنساني يتنازعه العنف والسلم، وكما توجد عناصر نفسها في التراث الأوروبي وغير الأوروبي، ولكن تلك العناصر لا تعمل إلا في مراحل الأزمة والاختناق الحضاري.

وقد ظل هذا التراث حيا طوال قرون لكنه لم ينتج هذه الكمية من العنف التي نراها اليوم، بل كان هذا التراث يدرس ويحفظ في دور التعليم وكان للناس اتصال يومي به، خلافا لما هو عليه اليوم، لكن مع ذلك لم يؤدِّ إلى هذه الجاهلية الرعناء التي تعيش بيننا، فإذا كان هذا التراث سببا لهذا العنف كان على أجدادنا السابقين أن يكونوا أكثر عنفا منا نحن اليوم، لأنهم كانوا يعيشون بهذا التراث ويتنفسون به.

وقد ظل جامع القرويين بفاس يخرج الطلبة كل عام بعد أن يحفظوا متون الأصول والفقه، ولكن التاريخ لا يقول لنا إن خريجي القرويين كانوا يمارسون القتل لأنهم متشبعون بالتراث" (انتهى كلام الأستاذ).

إن الأستاذ الكنبوري يبالغ في تقدير مدى اتصال المغاربة بنصوص التراث الديني أيّا كان نوعها؛ وذلك لأسباب بديهية، منها:

أولا: السبب الديموغرافي الذي يرتبط بتوزيع السكان بين البادية والمدينة: فإلى بدايات تسعينات القرن الماضي كانت الغلبة للبادية من حيث عدد السكان. وقد كانت البادية المغربية لوجيستيكيا وسوسيولسانيا وثقافيا بعيدة كل البعد عما كان يروج في القرويين من دروس ونصوص؛ والأفراد القلائل ممن كانوا يرتادون تلك الدروس لم يكن لهم تأثير يُذكر-على افتراض أنهم سعوا إلى ذلك-في البنية الذهنية للجماعات القبلية التي ينتمون إليها أو يقومون فيها بوظائف دينية. فقد كانوا يذوبون في ثقافة الجماعة التي كانت من القوة والرسوخ بحيث كانت تُحَيِّدُ (neutralise) وتبطل مفعول كل عنصر ثقافي لا ينسجم والرؤية للعالم التي تحملها تلك الثقافة.

ثانيا: السبب اللغوي-التعليمي: إن معظم المغاربة، وسكان البادية منهم خاصة، كانوا أمازيغيي اللسان أو دارجييه أو بين بين. ولم يكن التعليم المُعَرَّب والمعرِّب من الانتشار بحيث ينتج العدد الكافي من المتعلمين المتشبعين بمضامين نصوص التراث الديني العنيفة تشبعا يجعلهم يعملون على استنباتها في التربة الدينية للمجتمعات المحلية (مرة أخرى، على فرض أنهم هم أنفسهم استبطنوها وصارت توجه رؤيتهم للعالم؛ وهذا ما لم يكن).

ثالثا: نظرة مرتادي المدارس الدينية إلى المواد التي كانوا يدرسونها إجمالا: فقد كانوا يَعُدّونها معارف سكولاستيكية مقصورة على العدد المحدود من متداوليها الوظيفيين (بحكم وظائفهم الدينية والتعليمية) وليس لها أن تخرج من هذا الإطار الضيق لتوجه تفكير وسلوك الأفراد والجماعات إلا في حدود ما ينسجم وقيمَ الجماعة من مفاهيم تندرج في المشتَرَك من الأخلاق العملية وفي الروحانيات: كالإيمان والإحسان والبر بالوالدين وإطعام الطعام ونصرة المظلوم والذَّوْد عن الأرض والعرض، وغيرها من التعاليم العامة التي تحضُّ على إتيان الخير واجتناب الشر.

ومهما يكن، فإن المغاربة – تاريخيا وإلى وقت قريب – تَمثَّلوا دينهم من خلال ثقافتهم الأصيلة وعَبْرَ غربالها ومصفاتها: لذلك لم تجد نصوص التراث الديني المنتجة للعنف، سواء منها المؤسِّسة أو المتفرعة عنها طريقها إلى الإِعمال والتفعيل. فقد كانت الثقافة المحلية تتولى وظيفة التوطين والتكييف والملاءمة و"الاحتيال" سواء على صعيد الممارسة الاجتماعية أو على صعيد التشريع.

وإنه لَيَحُزّ في النفس أن أسُوقَ هذه الملاحظات بصيغة الماضي. فلقد خسر المغرب معركة التشدد والتعصب والتطرف العنيف في الدين يوم فرّط في ثقافته القومية الأصيلة، وابتغى عنها بدائل مستورَدَة من رَحِمها خرجت مُسوخ "إمليل".

 

ميمون أمسبريذ