كتبت على مدى العقود الثلاثة الماضية أكثر من مائتي مقالة عن إسرائيل مصوّرا ً إيّاها بأنها دولة ديمقراطية مستقلة وحرة، رائدة في حقوق الإنسان، قوة وحدة ليهود العالم، متحدة في مواطنيها، أصدقاؤها معجبون بها ومنتقدوها يحسدونها، وقبل كل شيء في سلام مع الدول العربية وخاصة مع الفلسطينيين. مرجع رؤيتي هذه عن إسرائيل كان إحساسي العميق بتاريخ اليهود المضطرب والمأساوي وتوقهم لبلد ٍ خاص بهم يعيشون فيه بسلام وأمان.

ومع مرور السنين أخذت أشعر بخيبة أمل متزايدة من انقسام إسرائيل السياسي المزمن وعدم قدرتها على حل الصراع مع الفلسطينيين وتزايد شعور اللآمبالاة العام لدى الشعب الإسرائيلي وفقدان وحدة الهدف في البلد والتخلي عن مسؤوليتها الأخلاقية. وهذه العوامل مجتمعة ً تشكل خطرا مشؤوما على إسرائيل كما نعرفه، داعية إلى تفكير جديد وإدراك ما ضلّ طريقه وما يمكن فعله لتصحيح ما أصبح المعيار من أجل إنقاذ إسرائيل من نفسها.

تم إنشاء إسرائيل لتوفير ملاذ جديد وملجأ لأي يهودي يسعى إلى العيش في دولة يهودية حرة دون خوف. وأصبحت هذه العلاقة التكافلية أقوى على مر السنين، وقد تمكنت إسرائيل من الإعتماد على دعم واضح لا لبس فيه من الجالية اليهودية الأميركية والأوروبية. غير أنّ طبيعة هذه العلاقة، على أية حال، بدأت تتغّير، لاسيما خلال السنوات العشرة الماضية.

وبالنظر إلى أن الأحزاب الدينية قد انضمت إلى جميع الحكومات الإئتلافية تقريباً، فقد جمع هؤلاء سلطة سياسية بشكل أكبر بكثير مما قد تضمنه دوائرها الإنتخابية، الأمر الذي منح هذه الأحزاب احتكاراً لكل الشؤون الدينية في إسرائيل، وبالتالي على يهود الشتات. ونتيجة لذلك، فإن الفجوة بين اليهود الإسرائيليين (في الغالب المجتمع الأرثوذكسي) واليهود المحافظين الغربيين وكذلك يهود الإصلاح الذين يعيشون بشكل أساسي في الولايات المتحدة قد أصبحت أوسع بشكل ينذر بالخطر.

وازدادت حدة الإنقسام المتنامي بسبب تراجع نتنياهو تحت ضغط المؤسسات الحاخامية على اتفاق كان سيسمح للرجال والنساء بالصلاة معاً في قسم معين من حائط المبكى.

علاوة على ذلك، ففي حين يركز اليهود الأميركيون والأوروبيون على الليبرالية والمساواة والسعي إلى مجتمع أكثر تسامحًا، بقي اليهود الإسرائيليون منشغلين بالتهديدات المتصورة لأمنهم من إيران والتطرف الفلسطيني. وبينما يعارض اليهود الأميركيون الإحتلال إلى حد كبير ويأسفون بشدة على المعاملة السيئة للفلسطينيين، فإن الإسرائيليين، وخاصة من اليمين، ينظرون إلى الفلسطينيين على أنهم أعداء فاسدون ويبررون الإحتلال باعتباره ضروريًا للأمن القومي.

لقد أدت هذه التطورات إلى تفاقم الخلافات الدينية والايديولوجية بشكل ٍ خطير بين الجانبين، وفي نفس الوقت يقوّض دور إسرائيل كقوة موحدة ليهود العالم، متناسين أن بقاء اليهود على مدى آلاف السنين يعزى إلى حد كبير إلى تقاربهم لبعضهم البعض، هذا بغض النظر عن طائفتهم الدينية ووسطهم الإجتماعي. وأكثر هذه النتائج وضوحاً لهذا التطور هي تناقص عدد اليهود الذين يهاجرون إلى إسرائيل، لأنهم لم يعودوا ينظرون إلى هذا البلد كملاذ آمن ويعتقدون أنه فشل في تبني المثل العليا التي يدافعون عنها.

وفي إسرائيل نفسها أصبحت الفجوة بين اليهود العلمانيين واليهود الأرثوذكس مقلقة بشكل متزايد. وقد تولت المؤسسات الحاخامية موقف إدارة جميع جوانب الحياة الدينية في إسرائيل، بما في ذلك الزواج والطلاق والتحول والصلاة على الجدار. على سبيل المثال، يجب على الإسرائيليين الذين يرغبون في الحصول على حفل زفاف غير أرثوذكسي أن يذهبوا خارج البلاد للزواج؛ وإلاّ لا تعترف بهم السلطات الحاخامية.

ومن القضايا الأخرى المثيرة للجدل هو إصرار المجتمع الأرثوذكسي على عدم إدخال أولادهم وبناتهم للخدمة في الجيش الإسرائيلي والتركيز بدلاً من ذلك على دراسة التوراة، في حين أن الخدمة العسكرية في الواقع إلزامية لجميع الإسرائيليين. وبالرغم من أنه تمّ تمرير قانون لتجنيد اليهود المتدينين في الجيش، غير أنه ألغي في وقت لاحق تحت ضغط من الأحزاب السياسية الدينية. وهذا يثير غضب قوات الأمن التي يتعين عليها حماية جميع الإسرائيليين، بما في ذلك اليهود الأرثوذكس الذين يعيشون في مستوطنات إيديولوجية في الضفة الغربية.

لقد خلقت معارضة السلطات الحاخامية لإضفاء الطابع المؤسسي على حركات المحافظين أو الإصلاح مشكلة أخرى استمرت في تعكير العلاقة بين المعسكرين. ففي حين أن غالبية الإسرائيليين هم يهود "علمانيون"، فإنهم يرفضون أي قيود من قبل المؤسسة الأرثوذكسية حول كيفية ممارسة دينهم كما يرونه مناسبًا.

وأخيراً، وعلى الرغم من أن معاداة السامية كانت موجودة منذ زمن بعيد حيث يُلقى اللوم على اليهود في كل العلل والمشاكل التي عانى منها العالم الإسلامي والمسيحي، فقد تقلبت فقط في شدتها تبعاً للوقت والبيئة الإجتماعية والسياسية الموجودة في أي بلد معيّن، غير أنّ مما لا شك فيه هو أن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين ساهمت في تصعيد العداء للسامية في السنوات الأخيرة. وتنكرالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مفهوم الفكرة القائلة بأن إزدياد العداء للسامية يرتبط بأي شكل من الأشكال بالإحتلال المستمر.

معاداة السامية في ازدياد في كل مكان، بما في ذلك الولايات المتحدة – كما نرى من مدينة شارلوتسفيل حيث ردّد شبان يحملون مشاعل: "اليهود لن يحلوا محلنا"، وكذلك المذبحة التي جرت في "مجمع شجرة الحياة" في مدينة بيتسبرغ في شهر أكتوبر. وحتى مع نمو كراهية اليهود على كلا جانبي الأطلسي، يدعي الصهاينة الراديكاليون أن إسرائيل متعددة الثقافات لا يمكنها أن تزدهر. فبعض أشكال التمييز العنصري هو البديل الوحيد القابل للتطبيق. لكن في النهاية هم يكررون بفعالية الحجة التي استخدمت في التاريخ الأوروبي الحديث ضد اليهود أنفسهم. وكما أشار الفيلسوف سلافوج زيزك بقوله: "يبدو الأمر كما لو أن المتطرفين الإسرائيليين على اليمين مستعدون للإعتراف بالتعصب الأوروبي الغربي تجاه تدفق الثقافات الأخرى إذا احترم حقهم في عدم التسامح مع الفلسطينيين."

إن هذا الموقف يعمل على إغفال حقيقة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وحدّة صراخهم الصاخب الذي يتردد صداه بشكل خاص في الدول الديمقراطية التي تعتقد بأن للفلسطينيين الحق في دولة خاصة بهم، حيث يقول هؤلاء بأن ليس لإسرائيل الأساس القانوني أو المعنوي لحرمانهم من حقهم، مقدمة بذلك الأساس المنطقي لللآساميين المتحمّسين.

وبالإضافة إلى ذلك، يُنظر للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية على أنها وجه الإحتلال وتصميم إسرائيل على الإبقاء عليه. لقد أدى ذلك إلى بعث حركة المقاطعة وسحب الإستثمارات وفرض العقوبات، المعروفة بـ "بي.دي.إس" التي تستهدف السلع الإسرائيلية المنتجة أو المصنعة في المستوطنات. المشكلة مع حركة "بي.دي.إس" هي ليست مدى تأثر الصادرات الإسرائيلية بشكل مباشر بها، ولكنها تستخدم من قبل الآخرين للتحريض على اللا سامية، الأمر الذي يجعل فصلها عن تيار اللآسامية الرئيسي أكثر صعوبة.

وحقيقة أن اليهود الذين تعرضوا للإضطهاد على مر القرون يُنظر إليهم الآن من قبل منتقديهم على أنهم طغاة جائرين، الأمر الذي يثير انتباهًا خاصًا لأن العالم، بغض النظر عن الإستحقاق، قد أصبح يتوقع معيارًا أخلاقيًا أعلى من إسرائيل. وفشل الإسرائيليين في الإرتقاء إلى مستوى هذه التوقعات سيستمر في تغذية المشاعر المعادية للسامية، والإحتلال يعمل كتذكير دائم ويحرض المعادين للسامية الأقلّ صخبا ً على رفع أصواتهم أكثر فأكثر.

لا أعتقد أن إسرائيل تواجه خطرًا وجوديًا من أي من أعدائها، بما في ذلك إيران. إن التهديد الأكبر لسلامتها ورفاهيتها المستقبلية ينبع من الداخل. ولكن للأسف، فقد القادة الإسرائيليون المتعاقبون بوصلتهم الأخلاقية وفشلوا في الإرتقاء للوعد والغرض الذي أنشئت من أجله إسرائيل.

يقع على عاتق الجيل الجديد من القادة الإسرائيليين واجب مقدس هو السعي وراء توحيد يهود العالم وإنهاء الصراع مع الفلسطينيين ومناصرة قضايا حقوق الإنسان والحرية. وما لم تسعى إسرائيل وراء تحقيق هذه القضايا وغيرها من القضايا الإنسانية، فإنها ستفقد روحها وتضيع سبب وجودها – وهذا سعر لا يستطيع الإسرائيليون دفعه.