انتبه السائق الخفيف في كل شيء، في القيادة، في الحركة، في الكلام، إلى الهاتف المنسي على لوحة القيادة. التفت إلي، وقال بعد أن ضحك ضحكة خفيفة: المدوخ نسيه مرة أخرى، زميلي الذي يتناوب معي على سياقة هذه السيارة ونقتسم معا غلتها مع مالكها ثقيل، كثير النسيان، ينسى القداحة، وينسى علبة السجائر، وينسى الطاقية، وينسى... وينسى... ويمكن أن ينسى حتى نفسه. استأذنني بأدب زائد في العودة لإيصال الأمانة إلى صاحبها، لم أبد امتعاضا، ولم أظهر اعتراضا، وأنى لي بذلك وقد صرت تحت رحمته بعد أن انتظرت طويلا وصبرت جميلا. دار نصف دورة ترنحت لها، وكدت أرتطم بالباب، ومضى يسلك بي المسالك ذات اليمين وذات اليسار، وأنا أتحامل على نفسي أصطنع التماسك والثبات.

بعد أن سلم الهاتف لصاحبه الثقيل كثير النسيان بمنتهى الخفة، انطلق بي من جديد إلى وجهتي، مال إليّ وقال: والله هذا الهاتف رحمة، لقد صار ضروريا مثل الماء والهواء. ذكرتني قولته بنداء عميد الأدب العربي طه حسين عن التعليم، وليعزز رأيه، ويقوي حجته، أخذ يحكي لي حكاية وصفها بالواقعية الحقيقية، كان يحكي ويسرع في الحكي، مجاريا إيقاعه في القيادة، وأنا بين خض ومخض أحبس أنفاسي لا أجد كلاما للتعليق.

حكى عن أخيه الأكبر الذي عاد إلى مقر عمله في الجنوب على متن سيارته بعد أن زار الوالد المريض، وحينما أبعد في الطريق اتصل به أحد الإخوة يدعوه إلى العودة فورا؛ لأن الحالة الصحية للوالد ساءت، ففهم أنه فارق الحياة، وعاد المسكين ليتكلف بمصاريف الدفن والعزاء.

رن هاتفي، كان صاحبي يستوثق من مقدمي، فوجدها السائق الخفيف في كل شيء فرصة ليقول لي بانتشاء وكأنه حقق نصرا مبينا: "أودي" هذا المسخوط يأتي بك أينما كنت.

وجدت صاحبي في المقهى التي ألجها أول مرة في انتظاري، غير أنه لم يكن بمفرده كما كنت أتوقع؛ بل كان بين لفيف من الجلساء لا أعرف منهم أحدا، أوسع لي في المجلس الذي جثم عليه الصمت، وقد بدت على قسمات محياه أمارات التحرج، كان كل واحد منهم منشغلا بهاتفه، سادرا في عالمه، النظرات سارحة، والأنامل سابحة، وأنا بينهم ضائع كاليتيم أترقب ردة فعل صاحبي.

فجأة كسر أحدهم الصمت، وضع هاتفه على الطاولة بعد أن أشبع رغبته في التطواف في الفضاء الأزرق، وفوق الهاتف وضع هاتفا أقل حجما من الأول، وقال منتفضا: هذا "المشقوف" حرمنا من دفء اللقاء، من حرارة التواصل، تصوروا أني لم أعد ألتقي بالأولاد إلا نادرا، الكل منزو في مكان، منشغل بهاتفه، لاه عن أسرته، هذا الهاتف صار ينتصب بيننا كالجدار.

رن هاتف أحد الجلساء رنة: مولاي صل وسلم دائما أبدا...

استرق النظر ليرى المتصل، ثم أوقف الرنة.

انتصب واقفا، وقال وهو يهم بالانصراف: بيننا الهواتف.


 

عبد الله زروال