أثناء حفل توقيع كتاب المقاوم والمناضل السياسي بنسعيد أيت يدر "هكذا تكلم محمد بنسعيد"، تمت الإشارة إلى التحاق المجاهد بنسعيد بصفوف المقاومة واليسار وهو خريج التعليم العتيق. كانت إشارة مهمة تضعنا جميعا أمام سؤال: ما الذي تغير وقد تضاعف عدد المدارس القرآنية وتوسع التعليم الديني؟ معلوم أن المدارس القرآنية، إلى حدود نهاية سبعينيات القرن العشرين، كانت أشد ارتباطا بالمجتمع وتفاعلا مع قضاياه الوطنية. وبفضل ذاك التفاعل والارتباط ظلت أفواج المتخرجين يميزها الحماس الوطني فتنخرط بكل جدية في الحياة العامة للشعب. وما كان لتلك المدارس القرآنية إلا لتكوّن خريجين يحملون هموم الشعب وينتصرون لقضايا الوطن، لأن مؤسسيها والمشرفين عليها كانوا متشبعين بالروح الوطنية وقيمها. لهذا ساهمت تلك المدارس في الحفاظ على مقومات الشخصية المغربية (الانفتاح على قيم العصر وإنتاجاته العلمية والتقنية، التشبع بقيم الحوار والتسامح والاختلاف والتعايش). وعُرف فقهاء المغرب باجتهاداتهم التنويرية، إذ لم تصدر فتاوى تحرّم التقنية أو المشاركة النسائية في تدبير الشأن العام، بل اجتهدوا فقهيا لاقتسام الممتلكات الزوجية إنصافا للمرأة. وقد برزت أسماء طبعت تاريخ المغرب الحديث وساهمت في استنهاض الهمم وإذكاء روح النضال الوطني من أجل الاستقلال (المختار السوسي، الشيخ أبو شعيب الدكالي، محمد السائح، المدني بن الحسني، محمد بلعربي العلوي، عبد الله الجيراري، علال الفاسي وآخرون).

فلا غرابة، إذن، أن يكون سي محمد بنسعيد أيت يدر مقاوما للاستعمار ومناضلا سياسيا من أجل الديمقراطية والحرية والكرامة، فهو خرّيج هذه المدارس وتلميذ لأولئك الشيوخ .

فهل ما زالت المدارس القرآنية تربي على قيم المواطنة؟

من الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الدولة أنها سمحت لتنظيمات الإسلام السياسي بإنشاء المدارس القرآنية منذ سبعينيات القرن العشرين لحسابات سياسية ضيقة (مواجهة المد التقدمي والمد الشيعي). واستمر تفريخ هذه المدارس عبر التراب الوطني إلى اليوم بمقررات وبرامج تعليمية موغلة في التطرف ومناهضة لقيم المواطنة؛ مما حولها إلى مشاتل للإعداد الفكري والوجداني لروادها وتأهيلهم ليكونوا متطرفين .

كانت إستراتيجية الدولة تهدف إلى تكوين أجيال متمسكة بوحدة المذهب المالكي ومحصنة ضد الاختراق الإيديولوجي أو المذهبي، لكن إستراتيجية التنظيمات الإسلامية كانت ولا تزال وستظل تضرب إستراتيجية الدولة وتنسفها عبر تشكيل ذهنيات مناهضة لقيم العصر ومكتسباته الحضارية، بل معادية لكل ما هو وطني. والأمر يزداد خطورة مع إحداث شعبة التعليم الأصيل ضمن شعب ومسالك التعليم العمومي بمختلف أسلاكه. وأيا كانت المراقبة التربوية، فإن ما يتلقاه التلاميذ مناف لقيم المواطنة، بل أساسا يضرب أسس ومقومات الشخصية المغربية في جوهرها. ويكفي إجراء ملاحظة مباشرة للمظهر الخارجي لتلاميذ هذه الشعبة بمختلف المؤسسات التعليمية لتتأكد الدولة بأنها تنشئ أجيالا منسلخة عن الشخصية المغربية وفاقدة لأي ولاء للوطن وغير منسجمة مع المجتمع، بل في تناقض مع قيمه وأعرافه (تحريم الفنون، تكفير الديمقراطية والأحزاب والمؤسسات التشريعية، مناهضة حقوق النساء، معاداة المطالبة بالمساواة والإنصاف، الإيمان بعقيدة الولاء والبراء..).

وإذا كانت الفترة الاستعمارية تفترض اعتماد وتنويع أساليب المقاومة والحفاظ على مقومات الشخصية المغربية من الذوبان أو المسخ والطمس بسبب السياسة الاستعمارية الرامية إلى إدماج المغاربة في المشروع الاستعماري والتطبيع معه والتخلي عن المقاومة بكل أوجهها (سياسية، عسكرية، ثقافية، فنية..)، فإن المرحلة الحالية المتسمة بإجماع المغاربة على تبني الدولة الديمقراطية ومشروع المجتمع الحداثي باتت تستوجب بناء شخصية وطنية ومواطِنة منفتحة على الثقافة الإنسانية ومكتسباتها الحضارية. وهذا النوع من الشخصية المطلوبة لا تشكله المدارس القرآنية الحالية ولا شعبة التعليم الأصيل والتعليم الديني عموما. إذ في الوقت الذي يحتاج المغرب إلى تقوية لحمته الوطنية وغرس قيم المواطنة في الناشئة يقوي ولاءها للوطن ويعزز شعورها بالانتماء إلى الإنسانية جمعاء، نجد هذا النوع من التعليم والتربية الذي تقدمه المدارس القرآنية وشعبة التعليم الأصيل يربي شخصية منغلقة ومنفصمة وغريبة عن عصرها ومناهضة لقيمه، شخصية تعيش زمنين متباعدين: تعيش وجدانيا وفكريا زمن الخلافة الإسلامية الأولى، بينما جسديا تعيش في القرن الواحد والعشرين وثورته العلمية والتقنية. كما ينتج هذا الصنف من التعليم ذهنية تعادي الحداثة وتناهض قيم العصر وحقوق الإنسان وتتطلع إلى اللحظة التي تمتلك فيها الوسيلة لسفك الدماء وسبي النساء وتدمير المكتسبات الحضارية والتقنية .

لا جرم أن الدولة المغربية، باعتمادها هذا النمط من التعليم الديني، تخلق أجيالا مقاوِمة للتغيير والتحديث والدمقرطة، وأكثر عداء لقيم المواطنة. أجيال تتربى على الكراهية وتتشبع بثقافة العنف وفقه التكفير وعقائد الغلو. ولا يمكن أبدا بناء الأوطان ولا الدفاع عنها بأجيال لا ولاء لها للوطن أو الشعب. لهذا باتت الحاجة ملحة إلى إعادة الاعتبار في هذا النمط من التعليم وبرامجه والعمل على خلق مدرسة مواطنة تغرس في الناشئة نفس القيم وتربيها على حب الوطن والشعب.


 

سعيد الكحل