إذا كنت في فترة المراهقة الفكرية أو الثقافية، فلا بأس أن تكتب كما اتفق لمجرد الكتابة، كما تريد وكيفما تشاء، دونما تعذيب عقلك، ولكن فقط في بديهيات الحياة، وذلك من أجل شحذ سيف قلمك وتجريب وقعه الفني على عقول الناس.

وأما إذا بلغت أشدك أو درجة النضج الفكري، وشعرت كما لو أن سيلا من الأفكار النافعة تتربص الفرصة لتتدفق في استثناء سديد، فلا تتسرع في إطلاق العنان لها، بل فكر مليا وتريث كثيرا أولا، ثم أكتب فقط في الأمور التي تهم المجتمع الإنساني بغرض النقد البناء والإصلاح وتقديم الحلول للمعضلات التي تقهر المستضعفين من جهة، والتي تجعل بلدك متخلفا من جهة أخرى. أكتب حينذاك كما تشعر، ولكن بعد التحقق والتفحص والتأكد والتمحيص والتدقيق، واحكم بضميرك، وبرأيك، بموضوعية تامة لا ناقصة ولا منقوصة.

فما أخطاء المراهقة الثقافية كأخطاء فترة النضج الفكري، لأن الأولى تعد عفوية بريئة والثانية تحتسب مصلحية إرادية. ولكن، لا تجعل مراهقتك الفكرية والثقافية تدوم طويلا لإرضاء الأقوياء أو للتملق لهم، حتى لا تكون في خريف عمرك كمن استهلك زاده هباء منثورا. ولا تنس أن ما حياة النفس سوى فترة جد قصيرة في رحلة الروح الأبدية، فافعل خيرا في دنياك الفانية تجده عند الله في آخرتك الأبدية.

واختر بعناية أسلوبك الأدبي حتى يلائم أوضاع مجتمعك بشموليته، بخيباته وآماله وقدراته وإكراهاته. ولا تجازف بلا حدود بالكلمات الجارحة واجنح للمرادفات الأقل خشونة قدر الإمكان، ولا تبذر كثيرا رزقك من الحبر في وصف البديهيات حتى يسع كافة الصفحات البيضاء...

اختر المواضيع بعناية فليست كلها تستحق الكتابة والقراءة، ولا تتأخر عن مساندة كل مظلوم مهما كان ظالمه قويا، أو مهما كانت الآلة الظالمة التي تستهدف المظلوم رهيبة مخيفة جهنمية، فإنك لن تعيش أبد الدهر على كل حال.

وإن يوما صادفت شهرة عابرة، فلا تغتر ولا تتكبر، فلعلها مفتعلة ومسطرة بعناية من لدن مؤثرين في الخفاء من ذوي الدهاء النافذ. فالتزم التواضع والثبات واعلم أن حبل الكذب الظاهر كما الخفي قصير، وأن صخرة الصفاء صلبة تتكسر على أرجائها أمواج الانتهازية الجوفاء.

إذا كتبت فانشر على الفور. ولكن تريث قبل بدل الجهد في الكتابة، في غياب الطلب أولا، والشروط الموضوعية لدى المتلقي لتقبل الجديد ثانيا. فلا كتابة بلا استجابة، ولا فكرة بلا رؤية. إقرأ وتابع ولا تكتب حتى ينضج فكر المتلقي الذي لا يجب إزعاجه، مادام سعيدا مكتفيا، وحتى لا تتسبب في فتنة فكرية قد لا تستوعبها عقول معاصريك، فما وقت الألفية الثالثة كعصر "فلاسفة الأنوار"...

انتظر قبل أن تكتب. انتظر السؤال. انتظر اعتراف الخائضين المقررين في أمور الناس بالنيابة، بواقع الباب المسدود... انتظر استسلامهم الفكري ثم التماسهم المعرفة. فكل ما تكتب لا قيمة له بدون طلب ملح مسبق من المقررين بالنيابة عن الناس. ولكن لا تنس تواضعك مهما كان. وليكن قرارك القاضي بالكف عن الكتابة وداعا مؤقتا. وإن وافتك المنية قبل أن تكتب الجديد الحاسم، لا بأس، فلعل في مغادرتك قبل الأوان خير لك ولمن تحب أيضا، واعلم أن قدرك كما قدر الإنسانية جمعاء محتوم محتوم. واعلم أن الله أعلم


 

يونس فنيش