في الوقت الذي خال فيه عديد المواطنين أنه بات وشيكا انطفاء نيران الاستياء والسخط، التي أشعل فتيلها تصريح رئيس الحكومة السابق والأمين العام لحزب العدالة والتنمية السابق عبد الإله ابن كيران، حول ما خصه به الجالس على العرش من معاش استثنائي يقدر بتسعة ملايين سنتيم شهريا رأفة بحاله، بعدما علم ببلوغ وضعيته المادية إلى أسوأ الأحوال. فإذا بالمصونة ابنته سمية تدخل كعادتها على الخط لتنفخ في النيران الملتهبة، من خلال تدوينة لها على صفحتها الشخصية بالفيسبوك، معلنة عن تحديها لمنتقدي والدها في أن يكون بينهم من يستطيع رفض هدية ملكية.

وليس غريبا أن تسير على نهج والدها في الخلط والتلاعب بالكلمات، وأن تحاول إيهام الناس بأن ما حظي به أبوها من عطف ملكي يندرج في إطار الهدية، بينما المعنى الحقيقي للهدية هو ما يقدم للشخص من أشياء حبا فيه أو مشاركته أفراحه بإحدى المناسبات السعيدة. وليطمئن قلبها، نؤكد لها بأنه لا يوجد بيننا من بمقدوره الامتناع عن قبول أعطية السلطان أو إحدى هداياه خاصة إذا كانت سمينة، اللهم إلا في حالات جد نادرة تستلزم الاعتذار باحترام تام، كأن يكون الشخص في مستوى عال من عزة النفس وحب الوطن، كما هو الشأن بالنسبة للوزيرين الأولين السابقين الأستاذ الراحل عبد الله ابراهيم الذي رفض استلام شيك بمبلغ ثلاثة ملايير سنتيم نظير معاش استثنائي، رغم توليه الوزارة الأولى مرتين، معتبرا أن مسؤوليته بالوزارة مجرد مهمة تنتهي بنهاية الولاية أو الإعفاء الملكي. والأستاذ المجاهد عبد الرحمان اليوسفي أطال الله عمره، الذي أقر بأنه لم يتلق من الهدايا الملكية سوى ساعتين يدويتين من المرحوم الحسن الثاني وابنه محمد السدس، لإدراكهما بأن قادة الاتحاد يرفضون هدايا من قبيل تلك التي يروج لها اليوم. 

      فما تجاهلته البنت المحظوظة التي استفادت في الأنفاس الأخيرة من حكومة والدها، من وظيفة بالأمانة العامة للحكومة في وقت أوصد فيه الأبواب أمام أبناء الشعب، داعيا إياهم إلى إسقاط الوظيفة العمومية من مفكراتهم والبحث لأنفسهم عن مصادر الرزق في قطاعات أخرى أو التوظيف بالتعاقد، وما يتجاهله معها من تبقى حوله من مريديه الذين لا يكفون عن تبرير ما لا يبرر من مهازله، هو أن من ينتقدون والدها، لا يرفضون أن يحظى مسؤول سابق ضاقت به السبل بالتفاتة إنسانية من قبل ملك البلاد، ويأمر بأن يصرف له معاش استثنائي من أموال الشعب حتى يكون قادرا على مواجهة غدر الزمن. 

      وإنما يرفضون التمادي في الضحك على ذقونهم والقيام بحملات انتخابية سابقة لأوانها على حساب همومهم، ولم يعودوا يصدقون ما يأتي به الرجل من روايات سخيفة، كأن يزعم أنه طلب من زوجته مهلة لتدبر أمره، وهو الذي قضى حوالي ربع قرن عضوا في مجلس النواب تلقى خلالها تعويضات شهرية بقيمة 36 ألف درهم، ورئيسا للحكومة خمس سنوات بسبعين ألف درهم شهريا، عدا باقي الامتيازات الأخرى. وما ظل يتوفر عليه من استثمارات في التجارة والتعليم الخاص... فأين ذهبت كل تلك الأموال، وهو كما تقول كريمته إنسان قنوع وزاهد في الدنيا ديدنه الاستعفاف، لدرجة أنهم يستغربون في البيت من كونه لا يعرف "شوبينغ" ولا بذخا ولا أسفارا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يسلك المسطرة العادية للحصول على معاشه وفق القانون والمحدد في حوالي أربعة ملايين سنتيم، ويرفض التوقيع على وثائق وزارة الاقتصاد والمالية، بينما يرحب بالمعاش الاستثنائي المقدر بتسعة ملايين شهريا، الذي خصه به الملك محمد السادس؟ 

      فما غاظ الكثيرين ليست "هدية السلطان"، بل انقلابه المباغت على المواقف والدوس على المبادئ، بعدما كان يملأ جنبات البرلمان صراخا، مستنكرا حصول الوزراء على معاشات استثنائية، معتبرا أنها ريعا سياسيا يجب إلغاؤه، وأنها غير مقبولة في ظل وجود فقراء أولى بها. فكيف يسمح لنفسه بتقاضي تسعة ملايين شهريا من الخزينة العامة للدولة كمعاش استثنائي، وهو الذي قضى فقط خمس سنوات على رأس حكومة فاشلة، بينما هناك مئات المعطلين المكفوفين من حملة الشهادات العليا يلقون حتفهم تحت عينيه من فرط الإقصاء، وآلاف الأرامل والمتقاعدين في الجيش وغيره ممن أفنوا أزهى فترات أعمارهم في بناء الوطن وحمايته، يحصلون على مبالغ زهيدة لا تتجاوز في أحسن الأحوال ألفي درهم. فأين نحن من المساواة والتوزيع العادل للثروة؟ 

      ثم هل الإنجازات المتباهى بها هي تلك القرارات الجائرة والاختيارات اللاشعبية، التي مازال المواطنون يعانون من تداعياتها، عندما أقدم على طحنهم من خلال تحرير أسعار المحروقات وإلغاء صندوق المقاصة، وهيأ الظروف المناسبة لتقويض قطاعي التعليم والصحة؟ فهو إلى جانب المس بقوتهم اليومي والإجهاز على أهم مكتسباتهم، كالتقاعد والإضراب، خلف إرثا ثقيلا على مستوى المديونية، حيث وصل دين الخزينة عند متم 2017 ما يقارب 692,30 مليار درهم بنسبة 65,10 بالمئة من الناتج الداخلي الخام، فيما واصلت مديونية المؤسسات والمقاولات العمومية ارتفاعها إلى نحو 277,7 مليار درهم بنسبة 26,1 بالمئة من الناتج الداخلي الخام، وقفز الحجم الإجمالي لمديونية القطاع العام من 918,2 مليار درهم عام 2016 إلى 970 مليار درهم مع متم 2017.

 

      فبتدوينتها التي لا تختلف كثيرا عن سابقاتها من حيث الضحالة والضلالة، تكون سمية ابن كيران قد ساهمت في التعجيل بقتل والدها سياسيا، إذ كيف لذي عقل سليم أن يقبل بتبريراتها الواهية عن حاجته الملحة إلى معاش استثنائي، يكون كفيلا باستقبال الكم الهائل من زواره وخاصة منهم الراغبين في مساعدات مادية، ومطالبتها من اعتبرتهم حسادا له بملاحقة ناهبي المال العام الحقيقيين، وهي تعلم جيدا أنه هو من مهد سبل تفشي الفساد والتطبيع معه، عبر شعاره الشهير: "عفا الله عما سلف"؟.



اسماعيل الحلوتي