حقيقة يقف المتابع للحراك العربي منذ ثورات مطلع هذا العقد متأملا. يكتشف رويدا عمق التناقضات التي بنيت عليها أنظمة ما بعد الاستقلال العربية منذ أواسط القرن الماضي، وبأي ثورة تحلم الجماهير العربية. وكلما كشفت عن طبقة في المشهد وحلحلتها وجدت طبقة أخرى متداخلة والغواية في قلبها. موقف النظام القطري من ثورة الشعب السوداني كاشف للغاية، وموقف النظام السوداني وتنقله على كل الموائد ودعوتها له وبحثه عن المدد في كل الطبقات العميقة في المشهد العربي كاشف للغاية أيضا.

إذا كانت قطر تدعي دعمها للحراك الثوري المستقل وغير المُحزب للجماهير العربية في بلدان الموجة الأولى من الثورة في مصر وتونس وليبيا وسوريا، فادعاءها نقاء الضمير وبياض السريرة ودعم التغيير الحر والإرادة المستقلة للشعوب قد فسد من قبل عدة مرات. فسد حينما دعمت نظام الإخوان في مصر ضد الحراك الثوري المستقل، الذي رأى فيهم مجرد حراس لبنية نظام مبارك القديم ولا جديد من ورائهم، سوى الانتهازية السياسية الفجة وتعميق التناقضات البالية.

وفي ثورة الشعب السوداني تسقط ورقة التوت المتبقية عن النظام القطري؛ وأنه لا يدعم حقوق الشعوب في البحث عن حريتها وكرامتها واستعادة ما لها، إنما يدعم علاقات سياسية وتحالفات وطبقة عميقة في نسيج المشهد العربي الممتد منذ القرن الماضي. زيارة البشير يوم الأربعاء 23 يناير لقطر واجتماعه مع أميرها في أول زيارة خارجية له منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية ضده، والتصريحات التي خرجت عن اللقاء بدعم قطر للسودان واستقراره، مستفزة وكاشفة للغاية عن أزمة المنطقة العربية وحلمها بالتغيير وفق معادلة حضارية جديدة.

هذا النمط في العلاقات القائم على الدافع السياسي وليس على الدافع الأخلاقي تكرر من قبل، ليترك مساحة ضخمة من التناقضات العالقة في المسألة العربية واستشراف مستقبلها في القرن الحادي والعشرين، تكرر عندما دعم حزب الله النظام السوري في مواجهة الثوار المستقلين لأن سوريا حليف سياسي لإيران التي تدعم بدورها حزب الله، وتكرر في مصر أيضا عندما دعم التيار الناصري برمته النظام السوري في مواجهة الثوار المستقلين لأن النظام السوري يحسب بالنسبة لهم على دولة عبدالناصر التاريخية، كما أن الإدارة السياسية لمصر دعمت النظام السياسي للسودان في مواجهة الثورة الشعبية الحالية رغم علاقة النظام هناك بفرق الدين السياسي والإخوان المسلمين، خوفا من انتقال عدوى الثورة لمصر وتفجر موجة شعبية جديدة من التمرد في البلاد. أية تناقضات تلك وأي ضمير أو ثورة قادرة على ضبطها!

النخب العربية المثقفة بطبقاتها ومشاربها المتعددة لا يختلف موقعها كثيرا تجاه معضلة الضمير أم الأيديولوجيا، والانتماءات المتضاربة بشدة التي تعود أيضا لتناقضات القرن الماضي، ومعظمها إما تعادي الحراك الثوري المستقل غير الأيديولوجي وتسخر منه أو تحاول استقطابه وغوايته، والقليل منهم يميل لهم عاطفيا دون قدرة فكرية على مد الجسور. لكن الرهان الأكبر لمجمل النخب العربية المثقفة أيديولوجيا لا ينتمي للمسألة برمتها هم يحلمون بإعادة انتاج مشروع الحداثة الأوربية سواء في شكله الماركسي أو الليبرالي، او يهيمون على وجههم في أطروحات ما بعد الحداثة وتفكيك السرديات الكبرى عن الثورات الشعبية أو غيرها، وربما يتعاونون مرحليا مع الأنظمة السياسية القائمة أو يدعمونها لمجرد الحفاظ على وجودهم السياسي الذاتي في المشهد. وكثير من اليسار العربي كان مع قمع القذافي للثوار الليبيين المستقلين بمجرد ان دخل الناتو على الخط بضرباته الجوية ضد النظام هناك. فأية تناقضات تلك وأي ثورة قادرة على سبر أغوارها وإنتاج معادلة جديدة تعيد بها خلق نفسها وواقعها العربي؟

ما الثورة إذا لم تكن قلبا نابضا يضبط حركة باقي الجسد ويدفع فيه بالحياة والضمير؟ ونحن على وشك أن نودع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين يُطرح التساؤل: ما الذي بقى من الثورة العربية الكبرى لتتمسك به الجماهير وتؤكد على حلمها؟ هل ظهور ثورة السترات الصفراء في فرنسا كأحد موجات رد الفعل العالمي لثورات الميادين العربية؟ هل ظهور الثورة في السودان وعودة بشائرها في تونس؟ هل صمود الشعب الفلسطيني ضد نقل القدس ومسيرات العودة الشعبية بعيدا عن صراع حماس والسلطة الفلسطينية؟ أم في كل عربي ما زال يحلم بغد أفضل يحكمه الضمير والعدل والأمل، وينتظر ظهور البديل السياسي القادر على تجاوز التناقضات العربية المتشابكة وسياقها التاريخي؟

إنه العرض والطلب. فهل تعاني بنية المشهد العربي من أزمة في المعروض سياسيا والمطلوب جماهيريا؟ هناك قاعدة طبيعية مهمة في الظاهرة البشرية عموما وهى أنه طالما هناك طلب على سلعة أو حاجة ما، فلابد في لحظة معينة سيطور المجتمع من ذاته ليلبي هذه الحاجة أو السلعة. يبدو ان هناك فجوة ما في المشهد السياسي العربي، فجوة بين العرض والطلب، بين الحلم والمتاح، بين التكيف مع العرض أو التمرد سعيا للطلب.

قطر والبشير هما نموذج تكرر بأشكال عدة في المشهد العربي في هذا العقد الثاني من القرن الجديد. هناك أربعة لاعبين رئيسيين في المشهد العربي هم كل المعروض سياسيا منذ القرن الماضي، ويتمثلون في أولا أنظمة ما بعد الاستقلال التي ارتبطت لحد بعيد بالمؤسسات العسكرية وكانت بضاعتهم السياسية تدور في الفلك القومية العربية، لكن هذا اللاعب تعرض للأزمة بعد حرب أكتوبر فاتجهت مصر للصلح المنفرد مع إسرائيل وارتمت سوريا في أحضان الدعم الإيراني الشيعي وتعرض العراق لفخ التناقضات المباشر بحربه مع إيران ثم خروجه حاليا من المعادلة.

واللاعب الثاني هم فرق الدين السياسي وفي مركزهم الإخوان المسلمون والحركات الجهادية التي تحسب على يسارهم أو الحركات السلفية التي تحسب على يمينهم. وظل هذا اللاعب تحت إمرة التناقضات وتوظيف اللاعب الأول له رغم العداء المعلن بينهما، حتى وصلت التناقضات لذروتها بتحالف الإخوان مع المجلس العسكري في مصر طمعا في السلطة، حتى أصبح هذا اللاعب والأطراف المتحلقة حوله محترقا لحد بعيد في مخيلة الجماهير العربية ووعيها، سوى عند الحنين لمقارنة التناقضات بعضها البعض على سبيل التندر والتحسر على الحال والمآل.

واللاعب الثالث هم فصائل اليسار العربي وفي قلبه الأحزاب الشيوعية القديمة التي تحول بعضهم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لليبرالية الفكرية والدعوة للدولة المدنية والعلمانية عموما، وكان هذا اللاعب رهن التناقضات أيضا حينما يوظفه اللاعب الأول متي شاء ضد فرق الدين السياسي أو يوظفهم ضده، كما ظلت أزمة هذا اللاعب الرئيسية في قدرته على تطوير خطاب لا يتصادم مع الجماهير العربية ومستودع هويتها بما جعل مساحته تتضاءل بشدة في المشهد.

واللاعب الرابع والأخير هو الدور الخليجي المتصاعد انطلاقا من حرب 1973 عندما ضغطت السعودية على الغرب بورقة البترول، ليلتفت الغرب لضرورة سحب دول الخليج لإطار التناقضات بدورها، وهو ما تم عن طريق الورقة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية ليحيد الغرب ورقة البترول ويضعها تحت التهديد المباشر له، ويتمثل هذا اللاعب في ثلاث دول هي السعودية والإمارات وقطر.

هؤلاء هم اللاعبون الرئيسيون الأربعة في تاريخ المشهد العربي، والذي تجري من خلالهم معظم التباديل والتوافيق السياسية، لتقدم منتجا يسعى لكسب رضاء وشغل حاجة الجماهير العربية لخلطة سياسية جديدة، ترى هل سيتحقق الحلم ويصبح للضمير السطوة والنفوذ في مستقبل الحالة العربية بوسيلة ما؟ أم أن النموذج الفج لقطر ونظام البشير سيعود مرارا وتكررا كما ظهر في الملف السوري والمصري! ليؤكد أن الطلب والحاجة الشعبية لم يقابلها عرضا ومتاحا سياسيا يلبي طموحها بعد، ذلك ما سيكشف عنه الزمن وسيتنافس فيه المتنافسون.

د. حاتم الجوهري