(1)

هذا الصباح غاضني فهمُ أحد أصدقائي الذي، من شدة تعصّبه لرأيه، يعتبر نفسَه من التلامذة النجباء لقلّة من العلماء يعملون على حفظ ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد الخطر الداهم الذي تمثله كتابات الإسلاميين، فأولى مقالات الإسلامولوجيين، وذلك عندما تجاذبنا أطراف الحديث (كاد أن يتحول إلى تجاذب أطراف الملابس!) حول مفهوم "القِوامة" المثير للجدل، وكان ما سمعتُ منه مثيرا للعجب إلى درجة الدّوخة. ولا أدري - في الحقيقة - كيف يستطيع إنسان خرّيج جامعة، قضى عمرا بين الكتب، أن يكوّن مثل هذه الرؤية السطحية والتجزيئية، والخطيرة أيضا، تجاه من يُفترض أنها نصف المجتمع، وأي حديث عن مسألة التقدم والتأخر - بمعيار مادي كان أو معنوي- دون حسم واضح في دورها وموقعها يعد خَبطا وتخبيطا.

رؤيتُه، بل قل عَماه، كانت واضحةً وصارمة، ملخّصها أن المرأة هي سبب كل مصائبنا، وعليها أن تبقى في البيت، ولا تخرج إلا نادرَ النّادِر، وإذا ما حصل وخرجت عليها أن تتبَرْقعَ ولا يظهر منها شيء لأنها عورةٌ كلُّها، ومُهمّتها الأساسية في الحياة هي: خدمة الزوج والقيام بحاجاته، وتربية الأولاد؛ وعليها أن تطيعَ زوجَها في كل شيء، فلا صوت لها ولا اختيار، لأنها ناقصة عقل ودين، وقد خُلقت من ضلع أعوج... وأشياء أخرى كثيرة مُهولة بحجم الهول الذي نعيشه في هذا الزمن الرديء.

وقد افترقنا - بعد إلحاح منه - على أساس أن أراسله بشكل مؤسَّس ومَبْنيّ حول فهمي لمسألة "القِوامة".. ولأني لم أشأ أن أخسر صداقته، فهو طيب على أي حال، أو لأني مازلتُ أحملُ أملا في تفتيت ما برأسه من فهمٍ صخريّ، بعثتُ له المقالة التالية:

(2)

في كتاب حواري مشترك بينها وبين الدكتورة نوال السعداوي صدر سنة 2000 عن دار الفكر، وعُنْونَ بـ"المرأة بين الدين والأخلاق"، وقفت الدكتورة هبة رؤوف عزت في مقالها المركزي عند مفهوم "القِوامة"، وعقدت له حوالي عشر صفحات من الصفحة 185 إلى الصفحة 195 (ستقول لي يا صديقي بدون أدنى شك: هذه وجهة نظر نسائية!) وقد بدا لي أن الأفكارَ الواردة فيه مُقنعةٌ وتتناسبُ في جملتها والأسئلةَ التي تنبعُ من واقعنا، انطلاقا من مرجعيتنا الإسلامية؛ ومن ثمّ تستحق هذه الرؤية - في نظري - أن تُنشرَ ملخّصةً في مقال قصير حتى تطّلع عليها أوسع شريحة ممكنة من المهتمين بهذه المسألة؛ وعليه فقد عَمَدْتُ إلى اختصار رؤيتها هذه وإجمالها دون أدنى تدخُّل منّي، إلى درجة أني حافظتُ على أسلوبها كاملا.

(3)

وردت صيغة "القِوامَة" في الاستخدام القرآني في ثلاثة مواضع: في قوله تعالى: "الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا"(النساء/34)..وقوله: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله" (النساء/135)..وقوله: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط" (المائدة/8)؛ فالقِوامة إذن - كما هو واضح من منطوق الآيات ومفهومها - إحدى صفات المؤمنين رجالا ونساء، وترتبط بالشهادة على الناس، وتعني القيام على أمر هذا الدين وفق الشرع، والالتزام بالعدل والقسط.

وإذا كانت القِوامةُ على مستوى الأمة سمةً عامّةً فإنها مسؤوليةٌ تكليفيّةٌ على الرجل في أسرته باعتباره القائم على شؤونها..وتقتضي هذه المسؤولية العدل والقسط، بخلاف ما إذا كان التعبير عنها بكلمة "سلطة" أو نحوها، والتي قد تفيد مطلق حرية التصرف.

وعلى هذا الأساس فإن كلمة "قوّام" تنطوي على أمرين: أن يُوفِّر حاجات المرأة المادية والمعنوية، بصورة تكفل لها الإشباع المناسب لحاجاتها تلك، وتشعرها بالسكينة والطمأنينة..وأن يوفر لها الحماية والرعاية، ويسوس الأسرة بالعدل.

وقد حاولت العديد من الكتابات التماسَ حكمة الشرع في قِوامة الرجل في الأسرة: ففسرها بعضُهم تفسيرا اقتصاديا، انطلاقا من العِلّة الثانية الواردة في الآية: "وبما أنفقوا"؛ في حين ركّز آخرون على العلّة الأولى، وهي التفضيل "بما فضّل الله". وهؤلاء لم ينتبهوا أن التفضيلَ يسري على الطرفين: "بما فضل بعضهم على بعض"، أي إنه يُفهَم في إطار تمايُزِ كل منهما في خصائص الرجولة والأنوثة.

وعلى هذا الأساس فإن "الدرجة" في السياق القرآني إذن قرينة الرجولة وليس الذكورة، فالرجولة - هنا - آداب وسلوك يتحمل بموجبها الرجل أمانة القِوامة، بينما تظل التقوى هي المعيار الوحيد للتّفاضل؛ فالدرجة لم تَقُمْ على أساس نقصٍ ذاتيٍّ في المرأة، وإنما على أساس التطبيق العملي والكسبي. والمراد بالتفضيل زيادة نسبة الصلاح في الرجل من جهة قدرته على قيادة الأسرة ورئاستها عن صلاح المرأة لها، فهي صالحة لذلك، ولكن الرجل أصلح، والمصلحة شرعا وعقلا تقتضي تقديم الأصلح.

وفي الحقيقة، لن يكتمل فهمنا لأبعاد مفهوم القِوامة في الرؤية الإسلامية إلا في ضوء إدراك أهمية الشورى كقيمة أساسية في العلاقات داخل الأسرة المسلمة.

وإذا كان الحديث عن الشورى في إطار الأسرة قد ورد في نظام الفطام مع انفصال الزوجين، وهو حق المطلقة في الشورى والتراضي والتفاهم على ما فيه مصلحة الطفل، إذ إن انفراد أحدهما بالأمر دون الآخر يعد باطلا، فأولى أن يكون ذلك من حق الزوجة القائمة في البيت على جزء أساسي من شؤونه..فالقاعدة في نظام المنزل الإسلامي هي التزام كل من الرجل والمرأة، بالإضافة إلى أولادهما طبعا، بالتشاور والتراضي في إدارة شؤون البيت. وفي هذا الإطار تكون القِوامة هي بمثابة الكلمة الفاصلة التي يحتاجها البيت عند نشوب خلاف لا تنهيه إلا كلمة فصل. فرئاسة الأسرة هنا رئاسة شورية لا استبدادية، لأن الزواج يُبنى أصلا على الرضى والقَبول والتعاقد، ويقوم بعد ذلك على التشاور والتراحم.


 

عبد الهادي المهادي