عندما كان أفلاطون يبني أركان دولته "الفاضلة" حجز لنخبة المثقفين (الفلاسفة) مقعدا في أعلى مراتب التراتبية الاجتماعية، فرشحهم للاضطلاع بشؤون الحكم، لأن السلطة تقتضي استنادا إلى مشروعه الفلسفي القدرة على الوصول إلى الحقيقة وإدراكها، وهي خاصية لا يمكن أن تحضر إلا عند الفلاسفة الذين تطهروا من سلاسل الحس وبلغوا نتيجة للتأمل العقلي إلى مستوى الخيرية والفضيلة.

لقد أجاب أفلاطون بهذا عن سؤال ظل صداه يتردد باستمرار عبر العصور، ومازال مطروحا إلى يومنا هذا بطريقة أو بأخرى. يتعلق الأمر هنا بعلاقة المثقف بالسلطة، وسنعيد طرحه في السياق المغربي من خلال الاستفهامات التالية: هل ينبغي على المثقف أن يكون سياسيا؟ هل يستطيع المثقف أن يفرض سلطته المعرفية في الدفاع عن قضايا الحق والعدالة والحرية؟ أي دور للمثقف في مشهدنا الاجتماعي والسياسي؟

ليست هذه الأسئلة وليدة اليوم إذن، لكنها باتت أكثر راهنية، وذلك بالنظر إلى غياب أي تأثير واضح للمثقفين في تدبير الشأن السياسي في مجتمعاتنا. وهو ما أفقد السياسة نبلها ورسالتها القيمية بعدما تخلت النخبة المتنورة الحاملة لهموم الناس عن مهمتها النقدية التي تستهدف إصلاح المجتمع والسلطة على السواء. وهذه هي الوظيفة التي يقترحها ابن المقفع للمثقف... وعندما تستقيل "الأنتلجنسيا" من الانخراط في قضايا المجتمع والإحساس بنبض الشارع والمساهمة في تأطير المواطن وتوجيهه... تصبح السياسة مجالا لتنافس المصالح الشخصية بدل تنافس البرامج والإيديولوجيات.

وقد حذر أفلاطون من هذه النتيجة في "الجمهورية" عندما تحدث عن مرحلة يتمكن خلالها الأغنياء (التجار ورجال المال والأعمال) من الوصول إلى السلطة للحصول على مزيد من الامتيازات الاجتماعية، وحينها تهبط السياسة وتنحط... وذلك ما نعبر عنه اليوم بزواج المال والسلطة، حيث أصبح النفوذ الاقتصادي مدخلا رئيسيا لتسلق سلم الترقي السياسي، وباتت مختلف التشكيلات الحزبية في المغرب مثلا وغيره من دول المنطقة تتسابق لاستقطاب الأعيان والأغنياء، بينما توارى المثقفون والمفكرون إلى الصفوف الخلفية، ولم يعد صوتهم مؤثرا ولا مسموعا.

لقد وضع أفلاطون مثقفي عصره (الفلاسفة) على رأس الهرم الاجتماعي ومنحهم السلطة والحكم، وهو وضع اعتباري يرتبط بموقف فلسفي يعيد تقسيم المهام والوظائف والمسؤوليات بين فئات المجتمع، ويحكمه تصور يحتقر العمل اليدوي ويعلي من شأن الفكر والتأمل والمعرفة النظرية. وهو ما من شأنه (لو قدر لهذه اليوتوبيا الأفلاطونية أن تتحقق) أن يؤدي إلى نظرة استعلائية تجعل المثقف في موقع المفارق وليس المحايث؛ أي إنه يصبح منفصلا عن قضايا مجتمعه مادام ينظر إليها من برجه العاجي المحفوف بفضيلة الحكمة، برج سلطة المعرفة المدعومة بسلطة الحكم...

وهذا الانفصال والتباعد بين المثقف وهموم الشارع يبدو واضحا في واقعنا اليوم، لكن المثقف الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا لم ينسلخ عن قضايا شعبه بسبب انشغاله بالسلطة، بل بسبب استقالته من المشهد واختياره لموقع المتفرج المحايد والصامت بدل أن يكون فاعلا في واقعه.

إن نجاح المثقف في توجيه الرأي العام والمشاركة في بناء مشروع مجتمعي يترجم تطلعات الشعب، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال انخراطه في الفعل السياسي بشكل مباشر، لكن هذا الدور المنشود للمثقف عندنا يبدو غائبا تماما، لأن هاجس التمثيلية وتجنب الصدام مع خيارات الدولة وأجنداتها، جعل الأحزاب السياسية تسعى إلى كسب ود الدولة من جهة، والبحث عن مكاسب انتخابية من جهة أخرى، لذلك همشت هذا المثقف وفتحت أبوابها أمام الأعيان من أجل كسب رهان التمثيلية، فأصبحنا إزاء مشهد حزبي تتشابه فيه معظم الأحزاب من حيث غياب العمق الشعبي، وانعدام الرؤية النقدية، وافتقاد المشروع السياسي المستقل...

إن الحاجة إلى مثقف منخرط بشكل فعلي وليس مجرد ملاحظ للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ببلادنا أمر ضروري، لأن الوعي المجتمعي لا يمكن أن يتحقق بدون بوصلة فكرية تؤطره وتوجه مساره. وبدون هذا المثقف الفاعل المدافع عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان تنظيرا وممارسة لا يمكن انتظار التغيير المنشود، لأن القوى الممانعة متجذرة وقوية ومتغلغلة في النسيج الاجتماعي. والتغيير هو نتيجة حتمية للصراع بين قوى التراث وقوى الثورة، أي بين المحافظين الذين يريدون إبقاء الأوضاع على ماهي عليه، والمجددين الذين يتطلعون إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية...

أدوات الفعل الثقافي لا ترتبط بالممارسة السياسية وحدها، فالمثقف قادر على التغيير والتأثير وتوجيه الرأي العام وإحراج الحكام ونقد السلوك السياسي والدفاع باستماتة عن الحريات والحقوق من مواقع مختلفة، وليس شرطا أن يفعل ذلك من خلال يافطة أو هيئة حزبية معينة؛ أي إن المثقف يستطيع التأثير في الممارسة السياسية دون أن يكون سياسيا بالمعنى المؤسساتي الذي يقتضي الانضباط لإيديولوجية وخطاب الهيئة التي ينتمي إليها.

لذلك فالحاجة ماسة اليوم إلى عودة "المثقف العضوي" بلغة "غرامشي"؛ أي أن يكون المثقف عضوا فاعلا في مجتمعه غير منفصل عن همومه ومشاكله وانتظاراته، يحقق الوعي المجتمعي، ويناضل بكتاباته وإنتاجاته وسلطته المعرفية ورؤيته النقدية وبحضوره الميداني أيضا من أجل المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية.

وذلك ما عبر عنه المثقفون الفرنسيون مثلا عندما نزلوا إلى الشارع في ماي 1968 خلال الثورة الطلابية الشهيرة التي عرفتها بلاد الأنوار. وحينها كان جون بول سارتر وميشيل فوكو وجيل دولوز وغيرهم من المفكرين والفنانين يقودون الصفوف الأولى للمتظاهرين، لأنهم اختاروا القيام بوظيفتهم كفاعلين اجتماعيين يعيشون آمال وآلام الفرنسيين، ويبحثون عن التغيير مثلهم تماما. وكلما كان المثقفون منحازين للشعب، تحققت إرادة التغيير تلك.

إن المثقف الحقيقي إذن هو ذلك الذي يصطف بجانب الجماهير ويتبنى القضايا العادلة للشعوب في سعيها نحو الانعتاق من سلاسل الظلم والاستبداد. ويبدو أن السلطة عندنا قد نجحت إلى حد بعيد في تحييد دور المثقف وتهميشه، إن لم نقل توظيفه لتسويق وتبرير اختياراتها وسياساتها (المثقف المدّاح)... وحين ينزوي المثقف بعيدا ويعتزل قضايا المجتمع أو يتحول إلى لسان أو سوط للسلطة، يفتقد الشارع إلى البوصلة التي توجهه وتساهم في توعيته. لذلك لا بد أن ينعتق المثقف من دوره التقليدي المتعالي أو الأداتي على السواء، ويتخلى عن موقف اللاموقف (اللامبالاة أو الخوف).



محمد مغوتي