شكلت نتيجة استفتاء الشعب البريطاني لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في 23 يونيو 2016 صدمة لدى كثيرين، لاسيما بعد أن تعهد رئيس الوزراء البريطاني حينها ديفيد كاميرون، لزعماء أوروبا بدعوة الناخبين للتصويت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، وذلك بعد أن تمت الموافقة على مطالبه المقترحات بشأن الإصلاحات في نظام الاتحاد، إضافة إلى منح بريطانيا بعض الامتيازات والاستثناءات لضمان استمرارها فيه. استقال كاميرون من منصبه على إثر النتيجة السلبية، وأوكلت مهمة التفاوض بشأن تفاصيل الانسحاب من الاتحاد الأوروبي لرئيسة وزراء بريطانيا الجديدة تيريزا ماي، التي توصلت إلى اتفاق مع بروكسيل بعد جهد مضن ولقاءات مكوكية استمرت على مدى عامين. إلا أن ذلك الاتفاق أثار جدلاً داخلياً واسعاً، لاسيما بعد إبقاء نقطة أساسية عالقة، مرتبطة بحسم موضوع الحدود الخلفية للملكة المتحدة بين شمال أيرلندا وجنوبها. وهو ما جعل كثيرين من نواب حزب المحافظين قبل غيرهم أن يثوروا ضد الاتفاق، ليسقط بعدها بشكل مدو بعد أن رفضه أغلب أعضاء البرلمان البريطاني في التصويت الذي جرى داخل مجلس العموم في 15 يناير 2019، لتبدو حكومة تيريزا ماي معها ضعيفة مترهلة آيلة للسقوط، وتنجو بفارق ضئيل من الأصوات بعد أن طرح جيريمي كوربن رئيس حزب العمال ورقة حجب الثقة عن حكومتها.  

ما من شك أن مشكلة البريكست معقدة، فهي مركبة من عدة عوامل متداخلة، بعضها متعلق بنقمة شعبية بلغت ذروتها إبان إجراء الاستفتاء على البريكست بسبب تزايد موجات الهجرة إليها من دول الاتحاد الأوروبي الفقيرة كرومانيا وبلغاريا ودول البلطيق، إضافة لسياسات التقشف التي اعتمدتها حكومة المحافظين وسوء الخدمات التي يتم تقديمها للمواطنين، لا سيما فيما يتعلق بالطبابة والمواصلات والمساعدات الاجتماعية، إضافة إلى تضاعف أسعار العقارات بشكل مذهل أفقد أغلب المواطنين القدرة على استئجار البيوت فضلاً عن تملكها. وبعضها الآخر متعلق بتصورات الحكومة البريطانية بقيادة المحافظين حول العلاقة المطلوبة مع الاتحاد الأوروبي، والتي أشار إليها رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون في كلمة ألقاها في مؤتمر دافوس في سويسرا (21 يناير 2016) وضع فيها النقاط على الحروف في هذا الموضوع بالذات، مؤكدًا فيها أن بريطانيا دولة كبرى متميزة وصاحبة سيادة، لا يمكن أن تقبل بالتخلي عن عملتها واستبداله باليورو وترفض الاندماج في كيان سياسي آخر يملي عليها ما يجب أن تفعله. وأن بقاء بريطانيا في الاتحاد رهن بمدى خدمة مصالح بريطانيا وتطلعاتها وسياساتها، وأنها تتطلع إلى نجاح تكتل دول اليورو بمعزل عنها وبناء علاقات مميزة معها تخدم الطرفين. وأكد كاميرون حاجة بريطانيا لأوروبا، إنما كشريك، مطالباً إياها بأن تكون منظمة مرنة بما فيه الكفاية لإقامة علاقات متوازنة بين الطرفين.

بهذا نجد أن بريطانيا تهدف عمليا إلى إقامة علاقات وطيدة مع الاتحاد الأوروبي، تكفل لها مجمل امتيازات باقي الأعضاء، مع إعفائها من تحمل تبعة أية سياسات يمكن أن تتبناها أوروبا أو أية أزمات يمكن أن تتعرض لها دول الاتحاد، على نحو ما حصل إبان الأزمة المالية العالمية في عام 2008، التي كشفت هشاشة عدد لا بأس به من اقتصاديات الدول الأعضاء كاليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال فضلاً عن الأعضاء الجدد من شرق اوروبا. كما يتيح لها الانفصال عن الاتحاد الأوروبي إقامة شراكات اقتصادية مهمة، سواء مع الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، أو مع الصين وشرق آسيا، من غير أن تكون مضطرة لمراجعة الاتحاد الأوروبي أو الاحتكام لقوانينه وآليات العمل فيه.

من المعلوم أن بريطانيا هي خامس أكبر اقتصاد في العالم (قبل أن تزيحها الهند إلى الموقع السادس مطلع الأسبوع الجاري)، ولديها نفوذ سياسي في مناطق شتى من العالم، إضافة إلى كم هائل من الإمكانيات والموارد والخبرات التي راكمتها عبر قرون من الزمن، محلياً ودولياً، ما يميزها عن غيرها من الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. لذلك فإن البريكست بالنسبة لأصحاب هذا التوجه حاجة ملحة لاستعادة بريطانيا قرارها السيادي وفرض نفسها كقطب دولي، يلعب في الساحة الدولية بتصوراته الخاصة، محاولاً أن يجد لنفسه دوراً فاعلاً ضمن مجموعة القوى الدولية التي بدأت تظهر في العقد الأخير كأقطاب دولية صاعدة، لاسيما بعد اضمحلال محاولات الولايات المتحدة بالتفرد في القرار الدولي وصعود الصين واستعادة روسيا جزءا من دورها، إضافة إلى تنامي دور المانيا في الاتحاد الأوروبي بشكل ملحوظ. ما يعني أننا أمام مشهد يعاد فيه تشكيل النظام الدولي بوجوه متعددة، يمكن أن تشكل بريطانيا أحد أقطابه، لا مجرد كيان أوروبي تتحكم به قوانين الاتحاد الأوروبي وسياساته.

لذلك فإن فشل تيريزا ماي في تسويق اتفاق خروجها من الاتحاد لا يعني نهاية البريكست لحد الآن، إنما يعني عدم القبول بالاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الاتحاد الأوروبي، كونه لا يلبي المطلوب من البريكست. إضافة إلى أسباب أخرى عززت من فشل تيريزا ماي في حشد النواب خلف الاتفاق، منها الصراعات الدائرة بين مختلف القوى السياسية بخصوص ماهية الخروج من الاتحاد الأوروبي، بل وميل بعضهم لإجراء استفتاء آخر للبقاء فيه، إضافة إلى محاولة حزب العمال الإطاحة بحزب المحافظين من الحكم، أملاً باقتناص الفرصة لإعادة تشكيل الحكومة بقيادته. مرة أخرى، يجب التنبه هنا إلى أن فشل تيريزا ماي في تأمين النصاب المطلوب من أصوات أعضاء مجلس العموم البريطاني لتأييد الاتفاق الذي توصلت إليه مع بروكسيل، بل وتصويت عدد كبير من أعضاء حزب المحافظين ضد زعيمتهم، لم يكن أبداً حباً في البقاء في الاتحاد الأوروبي، إنما لأنه لم يحقق الدرجة المطلوبة من السيادة التي يطمح إليها هؤلاء، والتي يعتبرونها بمثابة خطوة لا بد منها لتحقيق استقلال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي واستعادة سيادتهم على مملكتهم وبناء مصالحهم ضمن تصورات بريطانيا العظمى!

إن ما سبق عرضه يشير إلى أن التوجه العام لدى قسم مهم من الساسة البريطانيين هو الانفصال عن الاتحاد الأوروبي بشكل نهائي، سواء على نحو فج – أي انفصال من غير أي اتفاق - وهذا مستبعد، لكثرة المصالح وتشابكها بين الطرفين، منها مصالح مؤقتة وأخرى استراتيجية بعيدة الأمد، لا يستقيم معها الانفصال من غير ترتيب والاتفاق على طريقة التعاطي بشأنها، بل إن التوجه الاستراتيجي لدى بريطانيا هو إقامة شراكة كاملة وفعالة مع الاتحاد الأوروبي، ويتناقض هذا مع الخروج من غير اتفاق، وهو ما ستعمد الحكومة البريطانية على الوصول إليه بعد إضافة مكاسب جديدة للاتفاق الذي تم التوصل إليه سابقا، بما يضمن تحقيق السيادة الكاملة لبريطانيا. إلا أن هذا الأمر يحتاج ابتداء لترتيب أوضاع البيت السياسي البريطاني، سواء داخل حزب المحافظين أو مع أحزاب المعارضة، يتبعها خوض الحكومة البريطانية مفاوضات جديدة، تحفظ للاتحاد الأوروبي هيئته وكيانه كقوة اقتصادية وسياسية متماسكة مع استمرار بريطانيا كدولة كبرى مستقلة عنه وشريكة له في آن معًا. هذا ما ستعمل الحكومة البريطانية على إنجازه في المرحلة القادمة، لأن أي بديل آخر يعني مزيداً من التصدع الداخلي والفشل الذي سيكون له تداعيات على مستقبل بريطانيا وطموحاتها في لعب دور عالمي، ما يضعف من مركزها في النظام الدولي ويقلل من قدرتها على التأُثير في التوازنات الدولية بشكل مستقل عن توجهات الاتحاد الأوروبي والقوى الفاعلة فيه.

حسن الحسن