منذ دخول دونالد ترامب البيت الأبيض، قبل عامين، هناك حرص على التمّيز عن سلفه باراك أوباما. يعبر عن هذا التمّيز الخطاب الذي القاه في القاهرة حديثا مايك بومبيو وزير الخارجية الاميركي. حرص بومبيو على القاء الخطاب من المدينة نفسها التي توجه منها باراك أوباما الى العرب والمسلمين عموما قبل عشر سنوات. هذه المدينة هي القاهرة. تحدث أوباما من جامعة القاهرة في حين اختار بومبيو الجامعة الاميركية. تعتبر الجامعة الاميركية في القاهرة التي تأسّست بعد الجامعة الاميركية في بيروت (1866)، احدى منارات العلم في المنطقة العربية.

لم يتمكن بومبيو من اظهار انّ إدارة ترامب مختلفة عن إدارة أوباما. اكّد على العكس من ذلك ان إدارة ترامب عاجزة عن تمييز نفسها لا اكثر ولا اقلّ. ما يميّز إدارة عن إدارة أخرى هو الأفعال وليس الكلام الجميل الذي لا ترجمة فعلية على الأرض، اللهمّ الّا اذا كانت العقوبات الجديدة المفروضة على ايران ستتكفّل اجراء التغيير المطلوب. يشمل هذا التغيير، استنادا الى كلام بومبيو خروج الايرانيين كلّيا من الأراضي السورية والتخلّص من صواريخ "حزب الله" صاحب السيطرة الفعلية على لبنان.

مرّة أخرى، كشف احد المسؤولين الكبار في إدارة ترامب الداء ووصفه جيدا وذهب الى تفاصيل التفاصيل في تحديد مفاعليه. لكنّ ما ينقص هو الدواء. تعرف إدارة دونالد ترامب تماما ما هو الداء في الشرق الاوسط والخليج، وصولا الى اليمن، لكنّها لا تريد الاعتراف بانّ هذا الداء يحتاج الى دواء.

تكشف المقارنة بين الخطابين، خطاب الرئيس الاميركي السابق وخطاب وزير الخارجية الاميركي الحالي، انّ أوباما كان يعرف ما يريد في حين ان دونالد ترامب لا يزال في حيرة من امره على الرغم الوضوح الذي يميّز ادارته في شأن كلّ ما له علاقة بإيران ودورها في المنطقة ومشروعها التوسّعي الذي في أساسه الاستثمار في اثارة الغرائز المذهبية.

كان هدف أوباما منذ البداية التوصل الى تفاهم مع ايران. اختزل الملفّ النووي الايراني بالنسبة اليه كلّ أزمات الشرق الاوسط والخليج. لم يكن اوباما يرى سوى الإرهاب السنّي. فرّق بين تنظيم "القاعدة" واخواته واخوانه والميليشيات الشيعية التي ترعاها ايران والتي مارست كلّ أنواع التطهير حق العراقيين والتي تشارك في الحرب على الشعب السوري المستمرّة منذ ثماني سنوات تقريبا.

في الوقت الذي كان أوباما يلقي فيه خطابه من الجامعة الاميركية في القاهرة، كانت مفاوضات سرّية تجري بين الاميركيين والإيرانيين، وهي مفاوضات توجت بلقاءات علنية بين وزير الخارجية الايراني محمّد جواد ظريف ووزير الخارجية الاميركي جون كيري في جنيف وفيينا.

توصلت الولايات المتحدة، التي كان همها محصورا في تفادي أي ازعاج لإيران، الى الاتفاق الذي وقعته "الجمهورية الإسلامية" مع مجموعة الخمسة زائدا واحدا (الاعضاء الدائمون في مجلس الامن وألمانيا) في شأن الملفّ النووي الايراني. كان ذلك في صيف العام 2015.

طوال كلّ الفترة التي استغرقتها المفاوضات السرّية والعلنية بين ايران والولايات المتّحدة، كانت إدارة أوباما مستعدة لغضّ الطرف عن تصرّفات ايران في المنطقة. تجاهلت الإدارة كلّيا ما تفعله ايران في العراق، بما في ذلك استخدامها لـ"داعش" من اجل تدمير المدن العربية وإزالة كلّ اثر للعيش المشترك بين السنّة والشيعة في العراق. تبقى الموصل وما حلّ بها المثلّ الأكثر وقاحة على ذلك. الأخطر من ذلك كلّه، انّ إدارة أوباما تجاهلت كلّيا ما يرتكبه النظام السوري، نظام البراميل المتفجّرة والسلاح الكيميائي. عندما لجأ بشّار الأسد الى السلاح الكيميائي في الغوطة صيف العام 2013، كان باراك أوباما قد تحدّث عن "خطوط حمر" حذّر من تجاوزها. شمل ذلك لجوء النظام السوري الى السلاح الكيميائي. بقدرة قادرة، صار أوباما يرى كلّ الخطوط بكل الألوان باستثناء اللون الأحمر. مرّ استخدام السلاح الكيميائي مرور الكرام إرضاء لإيران الذي كان الرئيس الاميركي حريصا على عدم ازعاجها عن طريق ردّ فعل يضع حدّا للجرائم التي كان ولا يزال يتعرّض لها الشعب السوري.

هل تغيّر شيء في الموقف الاميركي من الشعب السوري في ضوء الخطاب الأخير لبومبيو؟

ليس ما يشير الى ذلك. لم يذهب وزير الخارجية الاميركي الى ابعد من القول "انّنا سنستخدم الديبلوماسية ونعمل مع شركائنا لطرد آخر جزمة إيرانية من سوريا". عن ايّ ديبلوماسية يتحدث بومبيو وعن ايّ شركاء؟

يبقى الكلام الجميل كلاما جميلا يبرع به المختصون الاميركيون الذين يصيغون خطابات المقيم في البيت الأبيض وكبار المسؤولين في الادارة. ولكن ماذا بعد الكلام؟ هل تغيّر شيء في سوريا؟ الجواب انّه لم يتغير شيء. تبرّع بومبيو بالكلام عن اخراج الايرانيين من سوريا وعن خفض النفوذ الايراني في العراق وعن معالجة موضوع صواريخ "حزب الله" التي تهدّد بحرب يمكن ان تلجأ اليها إسرائيل وتكون نتيجتها تدمير ما بقي من البنية التحتية المهلهلة في لبنان. الانكى من ذلك كلّه ان كلّ هذا الكلام الكبير الصادر عن وزير الخارجية يأتي في وقت لم يتوضّح فيه بعد هل ستنسحب الولايات المتحدة من سوريا عسكريا ام لا؟

لا يزال دونالد ترامب يبحث عن سياسة شرق أوسطية فعالة. اقدم على خطوة في غاية الشجاعة عندما مزّق الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني ودعا الى مقاربة جديدة مع ايران. تقوم هذه المقاربة، التي تستند الى تاريخ العلاقات بين "الجمهورية الإسلامية" والولايات المتحدة في السنوات الأربعين الماضية، على تغيير السلوك الايراني على الصعيد الإقليمي وعلى الصواريخ الباليستية التي تصرّ ايران على امتلاكها.

هناك وعي أميركي لخطورة ايران ودورها على صعيد زعزعة الاستقرار في الشرق الاوسط والخليج. في المقابل، هناك كلام عن انسحاب عسكري أميركي من سوريا. هل تريد إدارة ترامب متابعة السياسة التي اتبعها أوباما ولكن في ظلّ خطاب متشدد مليء بالتناقضات؟

في النهاية، اختلف الخطاب ولم تختلف السياسة. تدعو الولايات المتحدة الى قمّة تنعقد الشهر المقبل في بولندا للبحث في الموضوع الايراني وفي الوضع في الشرق الاوسط عموما. تريد إدارة ترامب القول انّها مختلفة. ما لا تقوله امران. الاوّل انّها لا تمتلك استراتيجية تجاه ايران غير العقوبات. امّا الامر الآخر فهو ان على حلفاء ايران في المنطقة لعب دورهم في التصدي لإيران. مَن مِن هؤلاء الحلفاء سيأخذ على عاتقه التصدي لإيران في سوريا؟ الجواب بكل بساطة ان ما تفعله إدارة ترامب يمثّل دعوة صريحة الى إسرائيل للتصرّف بالطريقة التي تراها مناسبة في سوريا. ما الذي ستفعله إسرائيل التي تقلقها صواريخ ايران في سوريا وصواريخ "حزب الله" في لبنان؟ كيف ستعالج ما تعتبره "تهديدا" خطيرا لها في وقت ليس ما يشير الى ان روسيا مستعدة للعب الدور المطلوب منها، أي دور المساهم في ترويض ايران وجعلها تأخذ حجمها الحقيقي في بلد مثل سوريا؟


خيرالله خيرالله