خرج السودانيون إلى الشوارع محتجين بسبب الخبز. وهو أمر غير مشجع. ذلك لأن الوصول إلى الخبز سبب للاحتجاج معناه أن ذلك الشعب قد تأخر كثيرا وأنه فقد الكثير، الكثير من مقومات وجوده الإنساني في مراحل سابقة قبل أن يفقد الخبز وهو ما يشترك الإنسان والحيوان في الحاجة إليه.

لهذا السبب يمكننا أن نتفهم لمَ يشعر الحاكم بالدهشة. ما يحدث هو بمثابة مفاجأة غير متوقعة.

فالشعب الذي لا يجد ضرورة في الاعتراض على وجود حاكم جائر لا ينظر إليه ذلك الحاكم باحترام. ذلك حكم قاس. غير أن هناك ما يوجب قوله إذا أردنا وضع الاصبع على حقيقة العلاقة بين الحاكم والشعب.

فلو لم يكن ذلك الحاكم مطمئنا إلى كسل وغيبوبة الشعب الذي يحكمه لما تمادى في اهماله لواجباته التي تمليها عليه وظيفته ولما وصلت الامور إلى درجة، يكون فيها الخبز عزيزا. 

ولكن هل يعرف الحاكم العربي، والبشير هنا هو نموذجنا، أن هناك واجبات عليه أن يقوم أن يؤديها لكي يكون مناسبا لوظيفته؟

أشك في ذلك.

في المقابل فإن الشعوب العربية هي ليست على اطلاع على وظيفة الحاكم بعد أن تم غمرها بمرويات تراثية عن المستبد العادل، رجل الدين والدنيا، القائد الذي هو وعد تاريخي، الرمز الوطني الذي يقف في وجه العالم متحدياً.

لقد حارب صدام حسين العالم في منازلتين، لم تكونا ملزمتين.

كان القذافي مهووسا بفكرة أن يراه العالم مختلفا حتى لو وصل ذلك الاختلاف إلى درجة نعته بالجنون.

اما البشير فإنه لا يزال مطلوبا من قبل محكمة دولية بعد أن أدخل بلاده في متاهة العقوبات.   

حقيقة أن أولئك الحكام كانوا قد تمادوا في سلوكهم العبثي غير المسؤول ولكن الشعوب هي الأخرى لم يكن لديها ما تعترض عليه إلا همسا.

سيُقال "إنه الخوف". فهل جُبل العرب دون شعوب العالم على نوع أبدي من الخوف؟ ذلك النوع الذي لا يكسره قمع مبالغ فيه ولا إذلال مقصود لذاته ولا مصادرة للحرية والكرامة تصل إلى حد الاستعباد.

حين يواجه مواطن بسيط رئيس دولته بالقول "عاوزين ناكل يا ريس" فإن ذلك الحدث الفاجع ينطوي على معان كثيرة.  

من المؤكد أن الخلل في العلاقة لا يتعلق بالسياسة. فالرئيس السوداني حين لجأ إلى قمع المحتجين على سوء الأحوال المعيشية لم يكن يدافع عن سياسته بل عن وجوده على كرسي الحكم.

المفارقة تكمن في أن البشير وهو اخواني معتق قد أخل بواجباته الوظيفية من أجل ن يخدم مشروع جماعة الاخوان المسلمين الذي يُفترض أنه يهدف إلى تحقيق العدالة البديلة عن عدالة البشر. مشروع هو عبارة عن واحدة من أكبر الأكاذيب التي صدقتها الشعوب وها هو الشعب السوداني يدفع ثمن غفلته التي استفاد منها البشير ومعارضوه الإسلاميون.

لم يكن هناك ما يمنع البشير من انجاز عدالته الاخوانية على الأرض عبر أكثر من ثلاثين سنة من حكمه.  

الامر نفسه حدث في العراق بعد احتلاله. فالإسلاميون هناك لديهم شريعتهم وفرضوا على المجتمع العراقي أحكام الحلال والحرام غير أنهم كانوا في الوقت نفسه قطاع طرق ونصابين ولصوصا ومحتالين ومهربين وسماسرة وأفاقين وارهابيين ومجرمين دوليين.

في كل التجارب العربية أثبت الإسلاميون أنهم الأشد فسادا والأكثر فتكا بالمجتمع وبثوابته الأخلاقية من غير أية رحمة. غير أن الشعوب لا تزال تقع في لحظة تردد وهي تحاول أن تعترف بالحقيقة. ذلك لأنها تصطدم بالجدار الذي لا تقوى على اختراقه.

ما يُسمى بـ"الإسلام السياسي" هو أكثر الابتكارات مكرا في الحياة العربية المعاصرة. من خلاله قيدت الشعوب العربية بعربة تجرها إلى المجهول.

لو لم يجع السودانيون لما خرجوا احتجاجا على سلطة اخواني لا يحترم بلده ولا شعبه.

لو لم يعطش سكان البصرة، وهي المدينة الأكثر ثراء في العراق لما خرجوا مطالبين بالخدمات من حكومة ما جاءت إلا لتخدمهم في الآخرة.

ألا تشبه معضلة الشعوب عقدة الحكم في العالم العربي؟

فاروق يوسف