تمهيد:

إن الله تعالى أرسل رسله إلى الناس داعين إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكانت رسالاتهم عليهم السلام إلى جانب تحقيق التوحيد إرساء مبادئ الحق والعدل والخير بين جميع الناس، ومن هؤلاء الانبياء النبي موسى عليه السلام الذي أرسل إلى بني إسرائيل بالهدى ودين الحق، فأنزل الله عليه التوراة، (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) سورة المائدة، الآية 44، ولكن التوراة من بعد موسى امتدت إليها يد التحريف فغُيرت وبُدلت وزيِد فيها ونقص، وما لم تستطع يد التحريف تبديله وتغييره أولته بما تهواه، كما تم التعلق بنصوص التفضيل لبني إسرائيل على باقي العالمين التي تضعهم في منزلة أعلى مما جعلهم ينظرون إلى أنفسهم أنهم فوق مستوى جميع الناس في العالم، ومصادر التشريع اليهودي المقدسة هي:

- التوراة المعروفة بالعهد القديم، وتتكون من خمسة أسفار هي: سفر التكوين وعدد إصحاحاته خمسون إصحاحا، وسفر الخروج أربعون إصحاحا، سفر اللاويين سبعة وعشرون إصحاحا، وسفر العدد ست وثلاثون إصحاحا، وسفر التثنية ويشمل أربعة وثلاثون إصحاحا، غير أن نصوص هذه الاسفار الخمسة المقدسة عند بني إسرائيل متناقضة ومضطربة بل إن الاضطراب والتناقض ليوجد في السفر الواحد[1]،

- التلمود: وهو عبارة عن روايات شفوية تناقلتها الحاخامات من جيل إلى جيل، ويعتبر أكثر اليهود التلمود كتابا منزلا يضعونه في منزلة التوراة ويرون أن الله أعطى موسى التوراة على طور سيناء مدونة، ولكنه أرسل على يده التلمود شفاها ويتضمن موضوعات تاريخية وتشريعية وزراعية وأدبية وعلمية وغيرها[2].

1- التشريع اليهودي في الميراث:

عندما ظهر التشريع اليهودي المستمد أساسا من التوراة، أقر ما جاء في العديد من المواد القانونية الحضارات القديمة وخاصة منها ما كان في قانون حمورابي[3]، مما يدل على أن الفكر اليهودي قد تأثر تأثرا كبيرا بحضارة البابليين والأشوريين والمصريين. غير أن التشريع اليهودي في الميراث أكثر شمولية من غيره لأنه يحمل تفصيلات وتفريعات حول التركات والهبات ومستحقيها، فقد فصل الحديث في بيان شأن المستحقين وبين مقدار نصيب الفرد منها ومن هم الذين يحق لهم ميراث المتوفى من الأبناء والأقرباء، وهو كذلك تشريع قاصر إذا ما تمت مقارنته مع ما جاء بعده من تشريعات.

كانت الشريعة اليهودية تقوم على حرمان البنت من الميراث منذ بدايته إلى أن قامت بنات صَلُفْحَادَ بن حَافَرَ بن جِلْعَادَ بن مَاكِير من عشائر مَنَسَّى بن يوسف، وهذه أسماء بناته: مَحْلَةُ وَنُوعَةُ وحُجْلَةُ ومَلِكَةُ و تِرْصَةُ بالاعتراض على ذلك لدى سيدنا موسى عليه السلام أمام الجميع عند خيمة الاجتماع وطالبن بنصيب والدهن في الميراث وهو لم يعقب ولدا ذكرا ، ورفع موسى الأمر إلى الله ليحكم في هذه المسألة التي لم يسبق لها مثيل من قبل، فأنصفهم قائلا لموسى: «بحق تكلمت بنات صلفحاد، فتعطيهن ملك نصيب بين أخوة أبيهن وتنقل نصيب أبيهن إليهن» سفر العدد27:6-7، وكانت تلك الحادثة بداية لاستقرار أحوال الميراث والتي حسمت بأمر من الله عز وجل كما تذكر التوراة في النص التالي: «وتكلم بنو إسرائيل قائلا: أيما رجل مات وليس له ابن تنقلون ملكه إلى ابنته، وإن لم يكن له ابنة تعطون ملكه لإخوته، وإن لم يكن له إخوة تعطوا ملكه لإخوة أبيه، وإن لم يكن لأبيه إخوة تعطوا ملكه لنسيبه الأقرب إليه من عشيرته فيرثه، فصارت لبني إسرائيل فريضة قضاء كما أمر الرب موسى» سفر العدد:8-11، فالواضح جدا أن نظام الميراث في الشريعة اليهودية نظام بدائي من خلال النص السابق، لا يعالج الكثير من المشكلات والقضايا المرتبطة بالإرث، لأن القاعدة الشرعية في شريعة موسى تقوم بالأساس على أن الأبناء الذكور فقط هم الذين لهم الحق في الميراث، ولا حق لأحد غيرهم في حالة وجودهم في هذا الميراث، فالتشريع اليهودي في الميراث يوجب شرعا أن الابن الأكبر للمتوفي يرث نصيب اثنين من إخوته، وأن البنت لا ترث إلا في حالة عدم وجود أخ ذكر لها، وبشرط أن تتزوج من عشيرتها، فقد جاء في سفر التثنية أنه «إذا كان للرجل امرأتان أحدهما محبوبة والأخرى مكروهة، فولدتا له بنين المحبوبة والمكروهة، فيوم يقسم لبنيه ما كان له، لا يحق له أن يقدم ابن المحبوبة بكرا على ابن المكروهة البكر، بل يعرف ابن المكروهة بكرا ليعطيه نصيب اثنين، له حق البكورية» تثنية 21:15-17، ولقد سار اليهود على نظام توريث الولد دون البنت في جميع المراحل ويتضح ذلك فيما يلي[4]:

- أنه إذا مات ميت فأول من يرثه ولده الذكر، وإذا تعدد الذكور فللبكري حظ اثنين من إخوته، هذا إن كان جميع أبناء الميت من الذكور، أما لو كن جميعا إناثا فإنه يقسم بينهن بالتساوي، فإن كانت بنتا واحدة فإنها تأخذ جميع المال. وشرط ميراث البنات ألا يكون للميت ذكر أو ابن ولد فإن وجد ابن أو ابن ابن ، فإنه يقدم على البنت، وكذلك تقدم بنت الابن على البنت أما إذا ترك الميت أولادا ذكورا وبناتا، فإنه بحسب الشريعة يرث الأولاد كل التركة، أما البنات فلا يرثن، ولكن إذا كانت البنات لم يبلغن سن الرشد أو لم يتزوجن بعد، فإنه يجب على الأولاد الذكور إعالتهن حتى يبلغن أو يتزوجن، وذلك بما يوازي عشر التركة إن كان فيها عقار، أما إذا لم يكن فيها عقار فلا نفقة ولا مهر، ولو ترك الرجل القناطير المقنطرة من الأموال السائلة أو المنقولة، أو المواشي فليس فيها عشر للبنت، كما أن هذا العشر لا يستحقه البنات في ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: أن يكون الميراث عن الأم فإنه وإن كان كذلك وخلفت بنين وبنات فالجميع للبنين،

الحالة الثانية: أن يكون الأب قد زوج بناته في حياته فإن كان كذلك فليس لهن العشر،

الحالة الثالثة: أن يكن قد أدركن وتزوجن بعد موت الأب، ولم يطالبن أخواتهن بشيء.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد من ضياع حق المرأة في العشر، بل إن هناك طريقا آخر ألا وهو أن الورثة لا يتحملون ديون المورث إلا إذا كان في التركة عقار يباع في الدين، ومعنى ذلك أن الورثة مسؤولون بدفع دين المورث فيما لو ترك عقارا، وأما لو ترك أموالا سائلة (نقودا) فلا يلتزمون بالدفع، هذه الطريقة هي سبب لضياع حق البنت، إذ إنه مادام العشر سيقتطع من العقار، ومادام العقار سيباع لسداد الدين، فمعنى ذلك أن البنت لن تحصل على نصيبها من العقار الذي قد لا يفي ثمن بيعه بما على المورث من دين، ويفوز الأولاد الذكور بما تركه المورث من أموال ومنقولات دون أن يدفعوا شيئا للدائن من ناحية ودون أن تحصل البنت على شيء من هذه الأموال المنقولة من ناحية أخرى.

- أما إذا لم يكن للميت أولاد ولا واحد من نسلهم فالوارث له أبوه، أما الأم فليس لها الحق في الميراث، لأنها لا ترث أبناءها سواء أكانوا ذكورا أم إناثا، مع العلم بأن العهد القديم لم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى توريث الأب، وفي هذا دلالة واضحة على أن أسفار العهد القديم من صنع البشر.

- إذا لم يكن للمتوفى فرع وارث ولا واحد من نسلهم، ولا أب صار الميراث للأخ، وإن كان له أكثر من أخ قسم بينهم بالسوية مع مراعاة أن الفرع يقوم مقام الأصل عند فقده، فابن الأخ يرث نصيب والده عند فقده، وكذلك بنت الأخ، ولكن الذكر مقدم على الأنثى ويحجبها، فإذا مات الإخوة وتركوا أولادا يقسم الميراث بينهم بالسوية على حسب حصص آبائهم.

- إذا لم يكن للمتوفى فرع وارث ولا واحد من نسلهم، ولا أب ولا إخوة ولا واحد من نسلهم فالميراث للجد، وهنا أيضا تعطي الشريعة اليهودية الميراث للجد دون الجدة، إهمالا لحق النساء.

- إذا لم يكن للميت فرع وارث ولا أب ولا أخ ولا واحد من نسلهم ولا جد، انتقل الميراث إلى العم دون العمة، وإن كان له أكثر من عم قسم الميراث بينهم بالسوية مع مراعاة أن الفرع يقوم مقام الأصل عند فقده، فابن العم يرث عند عدم وجود أبيه مع عمه وكذلك بنت العم ترثه عند عدم وجود أبيها مع عمها إذا لم يكن لها أخ.

وإذا مات الأعمام وتركوا أولادا يقسم الميراث على حسب حصص آبائهم، مع مراعاة أن للذكر من الأولاد يحجب أخته الأنثى فابن العم مقدم على أخته، وابن العم مقدم على بنت العم وهكذا.

إذن فالميراث في الديانة اليهودية أن البكر الذكر يرث وحده كل التركة ولا شيء لأحد غيره من الإناث لا البنت ولا الزوجة ولا الأم، فقد "كان يرث الميت عند قدماء اليهود ابنه الذكر سواء كان من نكاح صحيح أو غير صحيح، فإن تعدد الولد الذكر كان للبكر نصيب اثنين، وللبنت النفقة والتربية فقط حتى تبلغ الثانية عشرة من عمرها، فإذا لم يوجد للميت أبناء فميراثه لابن ابنه، فإذا لم يكن فلبنته، فإذا لم تكن فلأولاد بنته، فإذا لم يكن له أولاد ابن ولا أولاد بنت فللذكور من أولادهم أبناء الأبناء أولا ثم أولاد البنات ثانيا، فإن لم يوجد منهم احد يورث بنات الاولاد ثم بنات البنات، فإذا لم يوجد للميت فروع يكون ميراثه كله لأبيه ، فإن لم يكن فلجده ثم لأصوله من أبيه، فإن عدموا فلدى قرابته الفرعية الأعمام ثم أبنائهم ويقدم الدرجة الأولى على الثانية حتى الدرجة الخامسة ثم تتساوى الدرجات ويرث الكل سواء. فإذا لم يكن له أحد من قرابته يمتلك المال أسبق الناس إلى حيازته ويصير وديعة عنده لمدة ثلاث سنوات، فإذا لم يظهر وارث من قرابته كان ملكا خالصا له، وليس لمن يرتد ميراث من أقاربه اليهود، ومن يضرب أباه أو أمه ضربا مدميا لا يرث من والديه ولا من أقاربه"[5].

وفيما يتعلق بحق الأبناء الذكور في الميراث فإن هذا الحق مشروط بأن يكون الأب المتوفى قد سبق وباركهم أثناء حياته أو قبيل وفاته، وإن لم تكن قد تمت هذه البركة فليس لهم الحق في الميراث عن أبيهم، فالبركة في الفكر السامي القديم كانت تعني جلب الخير والرخاء للأبناء باستمرار لذا وجب حتمية قيام الأب بإعطاء البركة لأبنائه ليحق لهم الميراث من ناحية ولتحل عليهم البركة من ناحية أخرى، فالبركة تقوم مقام الاعتراف الصريح من الأب بأبنائه من الأمة والذي يترتب عليه حقهم في الاشتراك في ميراثه من تركته، وإلى جانب شرط بركة الاب نجد هناك شرط يهودية الأم، ونظرا لما كان يسود المجتمعات الرعوية الصحراوية التي تعتمد باستمرار على الحل والترحال بين الحين والآخر ومنها المجتمع اليهودي كانت تعتمد على الأبناء الذكور في الذود عن القبيلة أو العشيرة وحمايتها من الأخطار التي قد تحدث لها نتيجة إغارة عليها، ولذلك حرصت التشريعات اليهودية على أن تخص هؤلاء الأبناء بإدارة أمور العائلة بعد وفاة الأب، وبذلك تتحول الأموال والتركات إليهم كلها دون البنات، ومن وجهة النظر اليهودية بخصوص المحرومين من الميراث فإن الابن القاتل لمورثه وثبوت الإصرار على القتل عنده يحرمه من الميراث ، فلا يحق للابن القاتل أن يرث أباه[6].

2- ميراث المرأة في الديانة اليهودية:

يعد إعطاء بنات صلفحاد نصيبهن من تركة أبيهن أول تشريع لموسى عليه السلام ينظم إرث البنات الذي لم يكن من قبل، فإرث البنات لم يكن معروفا بحكم تأثر اليهود بقانون إرث الصحراء وتشربوا به، والذي ينص على: "ألا ترث النساء ولا الأطفال، وذلك لأن الذي يرث هو من يحارب ويدود عن الحوزة، أي أن حق الملكية أو الميراث كان مقصورا على رجال العشيرة فقط، ومن أجل هذا كان الحليف يرث حليفه، لأن الأصل في الحلف هو المؤاخاة والتعاقد على الموت، وقد ظل هذا القانون معمولا به عند العرب في الجاهلية، ولكن الإسلام حرمه، ولكن اليهود ظلوا يعملون به كما نصت شريعتهم بذلك، وكان هذا القانون هو النافذ عند العبرانيين قديما، فكانت القاعدة أن الرجل إذا مات ولم يكن له أبناء ورثه بنو عشيرته"[7].

- ميراث البنت: القاعدة العامة في التشريع اليهودي توجب أن تركة المتوفى للذكور دون الإناث، وعلى الذكور نفقة البنات وتربيتهن حتى يتزوجن، سواء كان ذلك الميراث في تركة الأب أو الأم، والجدير بالذكر "أن التشريع اليهودي كان يقف موقفا خاصا من المرأة بصفة عامة فيما يتعلق بأمورها الشخصية وعلى الأخص في حالة الميراث، وذلك حتى لا تنتقل ملكية أي سبط من أسباط اليهود إلى سبط آخر وحتى تحتفظ كل عشيرة بممتلكاتها، ومن هنا استقر حكماء التلمود ومن جاء بعدهم على أن الأصل في استحقاق الميراث كالآتي: أول من يرث في الميت ولده الذكر وإذا تعدد الذكور من الأولاد فللبكري حظ اثنين من إخوته، ولا فرق بين المولود من نكاح صحيح أو غير صحيح من الأولاد في المواريث، فيعطي لكل منهم نصيبه بقطع النظر عن النكاح الذي ولد منه ولا يحرم البكري من امتيازه بسبب كونه من نكاح غير شرعي، أما البنت فمن تبلغ منهن الثانية عشرة فلها النفقة والتربية حتى تبلغ هذا السن تماما. وهذا يعني أن البنت لا حق لها في ميراث أبيها طالما كان للأب أبناء ذكور، وعلى هذا يتضح أن الابن كان مفضلا على البنت، والأمر كذلك إذا كان الميراث من جهة الأم ولكن في وجود الابن الذكر"[8].

وهناك حالة يمكن للبنت القاصر أن تستفيد منها وهي قيمة الدوطة[9] من التركة وهو العشر.

و قد تكلم بنو إسرائيل قائلا: « أيما رجل مات وليس له بنون، تنقلون ملكه إلى ابنته، وإن لم يكن له ابنة، تعطون ملكه لإخوته، وإن لم يكن له إخوة تعطون ملكه لإخوة أبيه، وإن لم يكم لأبيه إخوة تعطون ملكه لنسيبه الأقرب إليه من عشيرته فيرثه» عدد27: 1-11، فقد كان هذا مصدر إلهام لما صدر من تشريعات في الميراث فيما بعد، ونجد في مجموعة الأحكام العبرية موادَّ خاصة بميراث البنت منها المادة 313: "إذا لم يكن للميت ولد ذكر، فميراثه لابن أخيه، وإن لم يكن له ابن ابن فالميراث للبنت، وإن لم يكن له بنت فالميراث لأولاد البنت، وإذا لم يكن له حفدة فلأولاد أولادهم الذكور، وإذا لم يكن له أولاد حفدة من الذكور فالميراث لبنات الحفدة"[10]، فموقف البنت من الميراث موقف ضعيف جدا فيه إجحاف وظلم لها، فهو أضعف المواقف بالنسبة لأفراد الأسرة كلها.

وفي كتابه المواريث في اليهودية والإسلام لخص عبد الرزاق أحمد قنديل القول فيما يتعلق ببنات المتوفى ومدى أحقيتهن في ميراث جزء من تركة الأب المتوفى طبقا لما يسمح به التشريع اليهودي في ذلك، فإنه يمكن أن نعلم أن ابنة المتوفى تعيش بعد أبيها مجهولة المستقبل بين أخوتها الذكور، فليس لها حق ثابت معلوم تحصل عليه من تركة الأب عقب الوفاة، بل على العكس من ذلك فلا حق لها على الإطلاق طالما يوجد أبناء ذكور للمتوفى، حتى ولو كان لها حق الإنفاق عليها وإعالتها الذي يتحمله إخوتها وهذا الحق أيضا كان مشروطا ببلوغها السن القانونية أو بزواجها حتى وهي قاصر، فإذا ما تزوجت سقط حقها في النفقة والإعالة، وتنتقل مسؤولية النفقة والإعالة إلى زوجها من اليوم الذي تخطب له أو تتزوج به، ويستمر الحال إلى أن يحدث ويتوفى هذا الزوج، فإذا توفي الزوج تجد نفسها مرة أخرى في حاجة إلى نفقة وإعالة، وعلى أبنائها مسؤولية ذلك مسؤولية كاملة طالما عاشت وأقامت بينهم، فإن خرجت من المنزل صارت لا حق لها لديهم اللهم ما كان ملكا خاصا بها كهدية زواجها من أبيها، والتي يعتبرها التشريع اليهودي حق للأبناء يرثونه بعد وفاتها، فالتشريع اليهودي هنا يمنحها حقا معلوما تحصل عليه في حالة وفاة رب الأسرة، وإنما جعلها باستمرار في الجانب الأضعف في الأسرة، وكل حق أثبته لها كان مشروطا بأوضاع معينة، وشروط معينة لا بد من توافرها، وجعلها باستمرار في حالة احتياج إما لإخوتها من البنين للإنفاق عليها لفترة معينة حددها الشرع اليهودي، وإما لأبنائها وذلك أيضا شرط أن تقيم بينهم وعدم زواجها أو خروجها من البيت، وربما كانت الحالة الفريدة التي تشعر فيها البنت بشيء من العزة النفسية، وأنها أفضل حالا من شركائها في الميراث عندما يحدث أن ترث مع أبناء أعمامها في بعض الأحيان لظروف معينة، ومن أمثلة ذلك أن يتوفى أخان في حياة أبيهما، ترك الأول من بعده ثلاثة أبناء أو أكثر وترك الثاني ابنة واحدة، فعندما يموت الجد تنتقل التركة إلى هؤلاء مناصفة بمعنى أن أبناء المتوفى الأول يأخذون نصف التركة على الرغم من أن عددهم ثلاثة، أما النصف الآخر من الميراث فيصبح حقا شرعيا للبنت الوحيدة، ولا عبرة هنا بعدد الأبناء والبنات وإنما العبرة بأن كل الأولاد قد حل محل أبيه المتوفى وأخذ ما يستحقه من الميراث، وحلت الابنة الوحيدة مكان أبيها المتوفى أيضا وأخذت نصيبه من التركة، وبذلك تتفوق الابنة الوحيدة هنا على الأولاد الثلاثة في نصيبها، والغريب في هذا التشريع اليهودي أنه يحرم البنت من الميراث في حالة وجود ابنة لابن متوفى، وبذلك تحجب ابنة الابن عمتها من الميراث[11].

إن جميع قوانين الشرق الأدنى القديم خاصة منها القوانين البابلية القديمة الخاصة بتشريعات الإرث، بالإضافة إلى الاعراف والعادات التي كانت سائدة في الجاهلية عند العرب، وما جاء به التشريع اليهودي كلها تكاد تجمع على تفضيل الذكور على الإناث، وإن كان التشريع اليهودي قد عاد مرة ثانية وسمح بإدخال ابنة الابن المتوفى مكان أبيها في ميراث جدها، بل سمح هذا التشريع أيضا للبنت أن تحجب الأب نفسه من ميراث ابنه في حالة ما إذا لم يكن هناك إخوة أو أولاد إخوة للابن المتوفى، ولا يوجد من الورثة سوى ابنة المتوفى وحدها، عند ذلك يحق لهذه الابنة ميراث أبيها في جدها عند الوفاة، وهي بذلك تحجب الجد عن ميراث ابنه الثاني إذ تأخذ البنت نصيب أبيها في أخيه[12].

- ميراث الزوجة: جاء في المادة 426 من الأحكام العبرية: "إذا ماتت الزوجة ولم تعقب ذرية من الأولاد، فزوجها وارثها الشرعي"[13]، في المقابل ليس للزوجة أي حق في ميراث زوجها، حتى لو كتب الزوج أمواله لزوجته، فإن هذا يعتبر وصاية لا وصية، فليس للزوجة إلا الحقوق المنصوص عليها في عقد الزواج، فالرجل هو الذي يرث زوجته، ولكن بشرط أن يدخل بها قبل الوفاة، وألا يكون بينها وبينه خصومة بسببه، فإذا توفيت والرجل على كرهه لها فلا إرث له عنها، وكذلك لو توفيت وكان لم يدخل بها.

هذا عند طائفة الربانيين، أما طائفة القرائين فإنهم لا يورثون الزوج من زوجته والعكس. وهناك حالة تعتبر فيها الزوجة ضمن إرث زوجها وهي : «إذا مات رجل ولم ينجب من امرأته، أصبح من المفروض عليها والذي لا خيار لها فيه، أن تتزوج أخاه حتى تنجب ولدا يسمى باسم المتوفى، والأخ له حق الرفض على أن يهان مقابل عدم قيامه بهذا الزواج، وقد جاء بالتوراة عن ذلك إذا سكن إخوة معا ومات أحدهم من غير أن ينجب ابنا فلا يجب أن تتزوج امرأته رجلا من غير أفراد عائلة زوجها، بل يتزوجها أخو زوجها ويعاشرها، ولقيم نحوها بواجب أخي الزوج، ويحمل البكري الذي تنجبه اسم الأخ الميت فلا ينقرض اسمه من أرض اسرائيل» التثنية 25: 5-7، من خلال هذا النص يتبين مدى تقييد حرية الأرملة في اختيار الزوج.

وخلاصة القول في ميراث الزوجة "فإن الزوجة أو الأرملة لا يحق لها الميراث في تركة زوجها طبقا للتشريعات اليهودية، وكل ما يحق لها أن تأخذ ما جاءت به عند زواجها من بيت أبيها أو منحه لها زوجها عند الزواج وثبت النص عليه في وثيقة الزواج، كما أن لها على الورثة النفقة طالما كانت تعيش بينهم في بيت الزوج المتوفى وطالما أنجبت منه، ولم تطالب الورثة بما لها من حقوق خاصة بها ثابتة في عقد الزواج فإن طالبت فلا نفقة لها ولا حقوق تجاه الورثة"[14]،

- ميراث الأم: اختُلِف في أحقية ميراث الأم أبناءها عند اليهود ومفسري نصوص الشريعة اليهودية[15]، لكن استقر الأمر في نهاية المطاف على أنه للأبوين حق ميراث ابنهما المتوفى بمقدار نصف تركته في حالة تواجدهما معا على قيد الحياة، فإن مات أحدهما وبقي الآخر فإنه يرث نصف التركة فقط، ويرث بقية الورثة النصف الآخر مع الحفاظ على ما نصت عليه القاعدة الشرعية الأساسية بتقديم الأبناء الذكور أو الإناث أولا، فإذا ما ترك الابن بعد وفاته أما وإخوة فإن الأم ترث النصف، والإخوة جميعا يرثون النصف الباقي بالتساوي في الانصبة فيما بينهم واستند هذا الرأي على أنه طالما كانت الام مورثة فيجب أن تكون كذلك وارثة شريطة التأكد من عدم وجود أبناء للميت ذكرانا كانوا أم إناثا، كذلك عدم وجود حفدة أو أبناء حفدة[16].

خاتمة:

إن اليهود يحرصون دائما على جمع المال واكتنازه بمختلف الوسائل وهذا يتماشى مع طبعهم في العيش حيث يعيشون متماسكين، ومن أجل ذلك كان من البديهي حرصهم كل الحرص على عدم توزيع ثروة الميت خارج أسرته لكي تحتفظ الأسرة فيما بينها بأموالها التي تعبت في جمعها، وتعتز بها بوصفها وسيلة للسيطرة والظهور في المجتمعات، لذلك هم لا يورثون المرأة سواء كانت بنتاً، أو أما، أو زوجة، أو أختاً، ما دام يوجد لهذا الميت ابن، أو أب، أو قريب ذكر كالأخ والعم، فالذكر يقدم دائماً على الأنثى، وللشخص الحرية الكاملة في ماله يتصرف به كيف يشاء بطريقة الهبة أو الوصية[17]، فنظام الإرث عند اليهود نظام غير عادل لا يعطي كل وارث ما يستحق، فليس من الإنصاف والعدل في شيء أن يخص الذكور- وإن كانوا مولودين من زواج باطل أو سفاح- بالميراث دون الإناث، يرث الابن دون البنت، كما أن الزوج يرث زوجته وهي لا ترثه، وهذا ظلم وإجحاف بحقها، وليس أيضا من العدل أن لا ترث الأم من تركة الأبناء، فليس هناك مبررات معقولة لذلك، فنظام اليهود في الإرث نظام مبني على أسس لا دينية كما أنه يخلو من فرائض مقدرة لسائر الورثة مما يشكل صعوبة في التقسيم[18]، خلافا لنظام الإرث الإسلامي العادل الذي فصل في أحكام الميراث تفصيلا يعز وجوده في أي الشرائع السماوية السابقة والنظم، وهذا إنما يدل على جلالة شأن علم الفرائض وشديد خطره، إذ إنه متعلق بحقوق العباد من خلق الله. ومع ذلك كله نجد سهاماً طائشة تحاول النيل من أحكام الميراث الربانية، ولكنها مردودة حتماً إلى نحور أصحابها فقد قرر العلماء في كل بقاع العالم أن أعدل نظام للميراث هو نظام القرآن الكريم[19].

[1] - ينظر إلى: الكتب المقدسة بين الصحة والتحريف، يحيى محمد علي ربيع، دار الوفاء للطباعة ، المنصورة، ط.1، 1995، ص 231. ينظر أيضا: نقد التوراة أسفار موسى الخمسة السامرية، العبرانية، اليونانية، أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ص 134.

[2] - ينظر: اليهودية، أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، 1988، ط.8، ص 265، وكتاب: موسوعة الديانات، ربيع داغر ، إشراف: سامي الخوري، ط.1، 2013، ج1، ص 203.

[3] - يعتبر قانون حمورابي قانونا كاملا شاملا لمعظم المواد القانونية التي يحتاجها الإنسان في حياته في ذلك العصر بصفة خاصة، جمع فيه حمورابي الملك العادل ما سبقه من قوانين تنظم مملكته تنظيما دقيقا ومحكما وعادلا في جميع الجوانب مع حرصه على إضافة قوانين جديدة، وقد بلغت مواده القانونية 282 مادة منها ما تهتم بالأحوال الشخصية لأفراد المجتمع ومنها ما يتصل بنظم المواريث وما يجب نحو التركات والأموال التي يتركها المتوفي، وتقسيمها تقسيما بين الورثة، للتفصيل في نظام الإرث في شريعة حمورابي ينظر: كتاب مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، طه باقر ، دار المعلمين العالية، 1955، ص 293.

[4] - نظام الأسرة في اليهودية والنصرانية والإسلام، صابر أحمد طه، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، 2004، ط.2 ، ص 184-185.

[5] -الميراث المقارن، كشكي محمد عبد الرحمان، دار النذير للطباعة والنشر، 1969، ص7، نقلا عن فقه المواريث والوصية في الشريعة الإسلامية: دراسة مقارنة، نصر فريد محمد واصل، مفتي الديار المصرية، المكتبة التوفيقية، مصر 1416، ص 13.

[6] - المواريث في اليهودية والإسلام، دراسة مقارنة، عبد الرزاق أحمد قنديل، سلسلة فضل الإسلام على اليهود واليهودية، العدد:13، مركز الدراسات الشرقية، 2008، ص 128،و ص141، بتصرف.

[7] - مركز المرأة في الشريعة اليهودية، السيد محمد عاشور، دار الاتحاد العربي، القاهرة، ص 48

[8] - المواريث في اليهودية والإسلام، دراسة مقارنة، مرجع سابق، ص 130-131.

[9] - إذا ترك الأب ميراثا وكان له أولاد ذكور وبنات ، فإنه بحسب الشريعة يرث الأولاد كل التركة أما البنات فلا ترثن ولكن إذا كانت البنات لم يبلغن الرشد أو لم يتزوجن بعد، فإنه يجب على الأولاد الذكور إعالة البنات حتى بلوغهن سن الرشد أو زواجهن، ولكي يحسم القانون حقهن في ذلك فإن الشريعة حددت حقهن بما يوازي عشر التركة، وهذا العشر ينفق عليهن أو يدفع لهن كصداق عند زواجهن وهذا ما يستفاد من نص المواد الآتية: 1- على تركة الأب نفقة البنات إلى أن يتزوجن أو يبلغن، 2- التركة للذكور دون الإناث وإنما عليهم نفقة غير المتزوجة منهن حتى تتزوج أو تبلغ، 3- إذا أساء الذكور إدارة التركة حق للإناث شرعا استقلالهن بنصيبهن، وإذا كن قاصرات فللسلطة الشرعية أن تنوب عنهن في ذلك.

هذا الكلام ظاهره الرحمة وباطنه السم، فهو مغالطة وظلم للمرأة ، وذلك أن فكرة العشر انصبت على ما يتركه الأب من عقار فقط، أما ما يتركه من أموال سائلة أو منقولة فليس فيها عشر للبنت، وإليك ما يثبت هذا الظلم والاجحاف بحقوق المرأة، فقد جاء في كتاب المقارنات والمقابلات: أن الكهنة زادوا فجعلوا حق البنات في النفقة والصداق قاصرا على التركة التي بها عقار فقط وحيث أن سداد الديون يكون من قيمة العقار أولا فعند التطبيق قد لا يبقى للبنت شيء أو يبقى القليل، فالديون المتروكة تسدد من العقار أولا. للتفصيل ينظر: مجموعة الأحكام الشرعية للإسرائيليين ، وكتاب: المرأة في اليهودية والمسيحية والإسلام، زكي علي السيد أبو غضة، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2003.

[10] - مجموعة الأحكام العبرية، نقلا عن الإسلام والأديان الأخرى: الإسلام والأديان الأخرى: نقاط الاتفاق والاختلاف، أحمد عبد الوهاب، مكتبة التراث الإسلامي، القاهرة، ص 171.

[11] - المواريث في اليهودية والإسلام، دراسة مقارنة، عبد الرزاق أحمد قنديل، مرجع سابق، ص 135-136

[12] - المواريث في اليهودية والإسلام، دراسة مقارنة، عبد الرزاق أحمد قنديل، مرجع سابق، ص141

[13] - مجموعة الأحكام العبرية، نقلا عن الإسلام والأديان الأخرى، مرجع سابق، ص171

[14] - المواريث في اليهودية والإسلام، دراسة مقارنة، عبد الرزاق أحمد قنديل، مرجع سابق، ص138.

[15] - للتفصيل في الأقوال المختلفة بين الربانيين والقرائين بخصوص ميراث الأم ينظر: المقارنات والمقابلات، محمد حافظ، القاهرة، 1902، ص 252.

[16] - ينظر: كتاب المواريث في اليهودية والإسلام، دراسة مقارنة، عبد الرزاق أحمد قنديل، مرجع سابق، ص 140.

[17] - التركة والميراث في الإسلام، محمد يوسف موسى، دار المعرفة، القاهرة، 1967، ط.2،ص31، بتصرف.

[18] - التركة والميراث في الإسلام، محمد يوسف موسى، مرجع سابق، ص43، بتصرف.

[19] - زهرة التفاسير، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، 1974م، ج4، ص502 .

د.علال الزهواني