يتداخل في خلطتها الكيميائية ما هو اجتماعي بما هو اقتصادي؛ ولكن يبقى الأساس هو المرتبط بالثقافي والديني، أو على الأصح التدين، بما أن الدين براء من أي عمل إجرامي كيفما كان نوعه، براءة قميص يوسف من دم الذئب؛ فأي دين هذا الذي يبيح عملا دمويا في حق فتاتي إمليل ضواحي مراكش البريئتين؟ بأي ذنب تقتلان وهما اللتان حلتا ضيفتين على بلادنا، ليس لهما من غرض غير ممارسة هوايتهما المفضلة، التي تتعلق بتسلق الجبال؟ الواجب علينا شعبا ودولة ومؤسسات حمايتهما وإكرام وفادتهما، حتى تغادرا آمنتين مطمئنتين..ألم يعرف المغاربة منذ القدم بكرم الضيافة وإجارة المستجير مهما كلف ذلك من ثمن؟ لقد أضحى الإرهاب اليوم أخطر من الفيروسات السرطانية، تفتك بالجسم بدون أي أعراض تدل عليه، في حال غياب التحليلات الدورية والرصد المبكر. ولولا يقظة الأجهزة الأمنية التي تشتغل ليل نهار من أجل مكافحة جرائم التطرف والإرهاب لأضحت بلادنا، لا قدر الله، تربة خصبة لتكاثر بذرتها الخبيثة، إذ تم تفكيك حوالي عشرين خلية إرهابية فقط هذه السنة، كما جاء على لسان رئيس الحكومة في اجتماعه الأسبوعي، في تحد مع الزمن من أجل إبطال مفعول القنابل الموقوتة قبل انفجارها وتنفيذ جرائمهم البشعة، في إطار ما يعرف بالحرب الاستباقية.

فأية قذارة أكثر من تنفيذ التصفيات الدموية بالطرق الوحشية تحت يافطة "الله أكبر"؟ وأي إله هذا الذي يبارك القتل البشع في حق الأبرياء بجز رؤوسهم بطريقة همجية؟ وإذا كان على ديننا الحنيف فإنه دين السلام والرحمة ومحبة الإنسان كائنا من كان..ألم يأمر بالرفق حتى بالحيوان والطير المسخر لبني البشر، إذا ذبحه أن يحسن ذبحه بِحَدِّ شفرته والحرص على إراحته تحقيقا للإحسان الواجب في كل شيء؟ فكيف بذبح فتاتين بريئتين كلهما حيوية ونشاط وإقبال على الحياة، بالطريقة الشنيعة التي تم الترويج لها على مواقع التواصل الاجتماعي؟ بل وحتى في الحروب فإن ديننا السمح يشدد على مجموعة من الآداب الصارمة التي لا بد من الالتزام بها، كالنهي عن قطع الشجر وقتل الصبيان والمرأة والشيخ الكبير الفاني، وهدم المنازل على الرؤوس، والنهي حتى عن إضرام النار في خلايا النحل؛ فما الذي تبقى لأي إرهابي متطرف يتمترس خلفه ليبرر عمله الإجرامي في حق الأبرياء؟ ثمة ملاحظات في سياق مناقشة هذا الموضوع نوردها كالتالي:

لا اختلاف بين اثنين حول الدور الكبير للأجهزة الأمنية في تصديها للتطرف والإرهاب العابر للقارات، حتى أضحى المغرب نموذجا يُعتد به في المجال الأمني، سواء على مستوى مواجهة الخلايا الإرهابية وتفكيكها، أو على صعيد مكافحة سوق المخدرات، أو تجارة القنب الهندي أو مخدر الكوكايين عالي التركيز، وكذا أقراص الهلوسة القادمة من أمريكا اللاتينية في اتجاه أوربا؛ فالمجهودات الأمنية لا تحتاج إلى التدليل عليها، ولازالت تطمح إلى المزيد لتطوير قدراتها اللوجستيكية وتكوين عنصرها البشري. ولعل السؤال الأخير "أية شرطة نريد؟"، الذي طرحته مجلة الشرطة في عددها الأخير، يدل على سعيها الأكيد إلى تجويد أدائها.. السؤال إذا كانت الأجهزة الأمنية تقوم بواجبها ولازالت تطمح إلى الأجود لتكون في مستوى المهمة الخطيرة الملقاة على عاتقها بحفظ أمن المواطنين وحفظ سمعة البلد ككل، فما الذي تبذله القطاعات الأخرى للتصدي للتطرف والإرهاب حتى لا تتكرر مثل هذه الممارسات الإجرامية؟.

عقب كل عملية إرهابية عادة ما تتحرك بعض أصابع الاتهام لتشير إلى المناهج الدراسية والبرامج، ومدارس التعليم العتيق، ودور العبادة وتحفيظ القرآن، وشعب الدراسات الإسلامية وكليات الشريعة.. وبدون تمييز يدعون إلى إغلاقها والتصدي لها بالمنع والقمع؛ بل ومنهم من يتوجه بالاتهام حتى للدولة ويدعو إلى البحث عن مسؤوليتها في الجرائم الإرهابية، محملا إياها مسؤولية فتح الباب على مصراعيه لتغلغل الفكر الوهابي بين أوساط الشباب..كلام للأسف يجري على لسان من يحسبون على النخبة المثقفة وعلى من يدعي التخصص في الشأن الديني..كلام يطلق على عواهنه بدون تمحيص ولا تخصيص، ما يقدح في الصفة الثقافية لأصحابها. فبخصوص المناهج، واحدة من اثنين، حسب منطق هؤلاء، إما أن لجان التأليف ولجان التتبع والمراجعة والإشراف متواطئون على زرع الإرهاب عنوة، ببث بذوره في ثنايا ما يعدون من مقررات، ومعهم الأساتذة المكلفون بتدريسه، تحت أعين الإدارات التربوية، وإشراف هيئة التفتيش والمديريات والأكاديميات، فيتحمل الجميع مسؤولية تخريج مثل هؤلاء الإرهابيين، الذين يطفون على السطح بين الفينة والأخرى بتنفيذ جرائمهم الإرهابية في حق الأبرياء، وإما أن هذه اللجان ومن يشرف على انتقائها تهرف بما لا تعرف، وتبث بغير وعي منها ما يفرخ هذه الخلايا الإرهابية. أما بخصوص من يحمل المسؤولية للدولة فشأنه لا يقل سذاجة، إذ يصور الدولة وكأنها لا خبراء لديها ولا إستراتيجية لها، ولا وجود للساهرين على أمنها الروحي، ولا مسؤولين عليها يعرفون ما يفعلون. هكذا بكل بساطة تفتح الأبواب على مصراعيها للفكر المتطرف ليفعل ما يشاء في البلاد والعباد.

أي منطق هذا؟ أعتقد بدل إطلاق الأحكام على عواهنها، وخلق صراعات جانبية، يتوجب على الجميع نبذ الخلافات ظِهْرِيّا ووضع اليد في اليد، لبحث سبل محاصرة مد التطرف والقضاء المبرم عليه، بكل الوسائل الأمنية والثقافية والفكرية والدينية كل من موقعه.

إذا كان على النص الديني عموما، بما أنه لغة، فهو حمال لأوجه، ولا سبيل للتحصين سوى بالتركيز على تكوين الأستاذ بمختلف أسلاك المدرسة المغربية، تكوينا بيداغوجيا حديثا، وتوسيع معارفه وتعميق مداركه بما يؤهله ليكون في مستوى توجيه متعلميه وتدريبهم على إعمال عقولهم في كل صغيرة وكبيرة، وكذا تنمية ملكة النقد لديهم حتى تكبر معهم؛ فلا تبقى نوافذهم وأبوابهم مشرعة أمام كل ما هب ودب من الأفكار المتطرفة، التي يصعب اليوم منعها مع الثورة المعلوماتية، وكثرة وسائط التواصل الاجتماعي، ولكي لا يكونوا أيضا صيدا سهلا بالنسبة لتجار الدم، ممن ينتشرون كالفطر، يصطادون ضحاياهم عبر هذه الوسائط بيسر وسهولة، ويخضعونهم لمجموعة من العمليات لغسل أدمغتهم، حتى تُسْتلب إرادتهم فيصبحوا كأي آلة تعمل بجهاز التحكم عن بعد، ما يجعلهم الحلقة الأضعف مقارنة بالرؤوس المدبرة وما بحوزتهم من وسائل التأثير المادية والمعنوية. أما إغراق المدارس بالأساتذة تحت إكراه عامل الخصاص بدون التدقيق في انتقاء الأنسب، وبدون تكوين متين، فيصعب المراهنة عليهم كثيرا لوقاية متعلميهم من مثل هذه الأفكار الهدامة، كانت شرقية أم غربية.

وما قلناه عن المدرسة نقوله عن مجال الوعظ ومنابر الجُمَع والأعياد؛ فما هو بين أيديهم ومتاح لهم لا يَتَأتَّى حتى لأكبر مثقفي العالم. فهل يدرون معنى أن يحج الناس إليك بالمئات وأحيانا بالآلاف طواعية مع استحضار قدسية المكان؟ المفروض أن يجدوا ما يلبي حاجتهم الروحية، ويصحح مفاهيمهم الدينية، ويحسسهم بسماحة ديننا الواسعة تسع كل البشر بغض النظر عن أديانهم وأفكارهم، ويحذرهم وأبناءهم من مغبة الوقوع في حبائل هؤلاء المقنعين بقناع الدين، والملتحفين بردائه من أجل تحقيق غاياتهم الإجرامية الدنيئة.

بوسلهام عميمر