وزير الخارجية التركي مولود تشاووش اوغلو يقول ان العمل متواصل بين بلاده وبعض الدول من اجل نقل قضية جمال خاشقجي الى الأمم المتحدة.


وزير العدل التركي عبدالحميد غل يتحدث بدوره هو الاخر بكل ثقة ويقول ان بلاده ستتابع قضية خاشقجي وستلجأ في هذا الاطار الى كل الاليات الدولية الممكنة بما فيها الأمم المتحدة!

هذا النمط من التصريحات لا يقتصر على مسؤولي الحكومة التركية فقط، اذ سبقهم الى القول به رئيسهم رجب طيب اردوغان الذي لوح في غير مناسبة بحمل القضية الى الأمم المتحدة، والسعي الى محاكمة دولية للجناة، بخلاف مطالبه غير مرة بتسليم المتهمين لمحاكمتهم في تركيا!

تصوروا البلد الذي يتجاوز عدد المساجين فيه اكثر من نصف عدد مسجوني الاتحاد الأوروبي بأكمله، ويقبع خلف قضبانه اكثر من ٧٧ الف معتقل ينتظرون محاكمتهم منذ ٢٠١٦ بخلاف اكثر من ١٥٠ الف معتقل ومفصول اخرين، يطالب باجراء محاكمة لمتهمين من جنسية أخرى يخضعون لمحاكمة في الدولة التي يتبعون لها!

شخصيا كنت لاعتبر التلويح التركي بحمل القضية لمجلس الامن ضربا من ضروب السذاجة، لكن لا يعقل ان يكون الامر كذلك فهنا رئيس دولة ووزير خارجية ووزير عدل بخلاف المستشارين، جميعهم متفقين على التدويل والذهاب لمجلس الامن ! فهل الفكرة هي الذهاب فعلا لمجلس الامن ام ان الامر لا يعدو كونه استغفالا للمواطنين الاتراك وتصريحات للاستهلاك الاعلامي... ؟ وهذا هو الأرجح، لانه لو قرر السلطان فعلا حمل قضيته الى مجلس الامن، ترى من سيصوت لتدويلها؟ فالدول العظمى لا تفهم هذه اللغة العرجاء الغير متكئة على الانظمة والقوانيين والعقل والمنطق حتى لو قيل لهم إنه السلطان خاشقجي كما حاول الاتراك تصويره لشعبهم.

دعونا نعدد الدول ترى من سيصوت للاطماع التركية: الولايات المتحدة ام الصين ام روسيا ام بريطانيا ام فرنسا، يتطلب التدويل الذي يردده اردوغان وحكومته موافقة الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الامن، ترى أي من تلك الدول الكبرى التي تستوعب مساعي اردوغان واطماعه ستقف معه، فقرار مثل هذا يعني اتفاق الدول في المقام الأول على عدم نزاهة القضاء السعودي وعدم الثقة فيه، وهذا غير وارد لا من الناحية النظرية ولا العملية، طبعا نتحدث هنا على افتراض انهم قبلوا النظر في الامر من الأساس او على الأقل سمحت له واشنطن لارتكاب عمل طائش مثل ذلك، اما من الناحية القانونية فالامر مختلف لان حراك مثل هذا يتطلب موافقة جميع الأطراف بما فيها السعودية لتدويل هكذا قضية أو عجزها على الأقل، علاوة على ان المتهمين تجري محاكمتهم الان في دولة ذات سيادة تحظى بمكانة دولية مرموقة، وهنا لا يمكن في القانون الدولي محاكمة متهم بمحكمتين مختلفتين لذات الجريمة وخلاف ذلك سيكون امرا بالغ التعقيد.

اذا يدرك اردوغان جيدا ان هذا الخيار الذي ملأ الدنيا به ضجيجا غير ممكن، فلماذا يردده اذا؟

هنا لا بد من عودة الى البداية، فاردوغان وجد ان الفرصة سانحة له لضرب عصافير عدة بحجر واحد، الأول الاستفادة المادية لإنقاذ اقتصاد بلاده من الانهيار وذلك من خلال ابتزاز الرياض ودفعها لتعظيم استثماراتها وودائعها، الثاني فتح خط جديد مع واشنطن بعد ان تأزمت علاقاتها مع انقرة ووصلت الى اسوء حالاتها، الثالث تعزيز مكانة حزبه في الداخل بعد ان فقد الكثير من شعبيته، الرابع يتعلق بتصفية خصومه لاسيما فتح الله غولن، الخامس تحقيق حلمه ببناء «امبراطورية اردوغان» لا كما يقال استعادة امجاد الامبراطورية العثمانية، فهو يطمع بمد نفوذه في العالمين العربي والإسلامي بحسب مفاهيمه الشخصية، السادس اخذ حصة اكبر من الكعكة السورية، وأيضا لا ننسى الاتحاد الأوروبي وجره عاطفيا ليصبح طرفا في الازمة ولفتح خطوط عودة لعل وعسى ان يوافقوا على ضمه. قد تكون هذه ابرز المغريات التي دفعت اردوغان لتصعيد قضية خاشقجي وتحويلها لقضية رأي عام وتسويق فكرة تدويلها. لكن الرياح تأتي غالبا بما لا تشتهي السفن، فقد كان رهان اردوغان هنا في المقام الأول على الولايات المتحدة الأميركية وعلى ترامب تحديدا، اذ كانت تركيا اردوغان تتوقع ان تقف اميركا في منتصف الطريق وتمنح له الفرصة لممارسة شعائر أحلامه ومشاريعه، لم يتوقع السلطان ان يذهب ترمب الى هذا الحد في التمسك بعلاقة بلاده التاريخية بالسعودية، هيأت له قلة خبرته وعدم تمكنه من قراءة الوقائع على الأرض في شكل دقيق ذلك فاندفع خلف تلك الطموحات قبل ان تنهار فجأة كما بدأت، هنا ايقن اردوغان انه خسر كثيرا فهو لم يخرج بمكاسب من السعودية كما كان يمني النفس فهذه الأخيرة التزمت بالاصول القانونية والدبلوماسية والرسمية ولم تنحدر الى مستوى الخطاب التركي بشقيه الانتهازي والابتزازي، اما على الصعيد الأميركي، فقد قدم ترمب أخيرا لا ردوغان «هدية لطالما حلم بها تتلخص في اعلان الانسحاب من شمال سورية، فوجد اردوغان في هذه الهدية الفرصة لحفظ ماء وجهه بعد عديد من الانتكاسات السياسية، ولازال يردد ذلك حتى بعد تراجع ترمب قليلا، لكن في حقيقة الامر ان الهدية التي قدمها ترمب هي «هدية مسمومة» لان اردوغان سيجد نفسه بمواجهة النظام السوري وروسيا، فالاكراد الذين يسعى للقضاء عليهم لديهم خطوط مباشرة مع النظام السوري وايران أيضا ما سيجعل اردوغان في مستنقع لن يخرج منه بل سيكون وبالا عليه.

اذا امام انهيار أحلام اردوغان واقتناعه انه لن يخرج بأية مردود كان يطمع به فما هي الخيارات امامه؟

لا يتوقع ان يتخلى اردوغان عن الحملة الإعلامية ضد السعودية، بل سيحافظ على وتيرتها لا سيما انه يتقاضى مقابلها، فاذا كانت لتركيا اطماعها التي ذكرناها أعلاه، كان لقطر أطماع أخرى وهدف وحيد تسعى له وانفقت عليه الكثير، اذ كانت الدوحة تعتقد وتمني النفس ان التصعيد الذي تم ممارسته سيطيح باعلى سلطة في البلاد وبالنفوذ السعودي في المنطقة ككل، كان طموحها اكبر من الطموح التركي ومن حجمها بطبيعة الحال لكنها ليست بعيدة عن حليفها اردوغان، أصيبت بخيبة امل وأي خيبة، فقد هيأت لها رعونة سياستها وقصر نظرها انها قادرة واليوم لم يعد بإمكانها الرجوع، لذلك ستواصل مع حليفها التركي النهج الإعلامي المتطرف والمضلل الذي تقوده وستحفزه، لكن لن يخرج الامر عن ذلك وسيبقى واحدا من الاحلام التي تداعب مخيلتهم.

نعود لانقرة فهي اليوم في ازمة حقيقية تبحث عن خاتمة للروايات والقصص التي نسجتها حول مقتل الراحل خاشقجي، وبمعنى اصح تبحث عما يحفظ ماء وجهها، على الأقل امام مواطنيها، لذلك يتوقع ان تشن عملية قصيرة المدى داخل الأراضي السورية الهدف منها اشغال شعبها عن قضية خاشقجي ونقل اهتماماتهم لشأن اخر.

أخفقت تركيا كثيرا، لكن من وجهة نظري ما تعانيه من اخفاق اليوم سيكون شيء لا يذكر امام الإخفاق الذي سيصيبها قريبا، هم يروجون في اعلامهم ان السعودية تشن حربا عليهم، وانها تتآمر عليهم، واساؤوا للسعودية قيادة وشعبا، ولم يتركوا مناسبة الا استغلوها لهذا الغرض، لذا أقول لهم بالنسبة للسعودية الرسمية فذلك شأن مختلف، اما الحرب التي تخشونها وتشيعون اندلاعها ستأتيكم من المواطنين السعوديين الذي حزموا امرهم لمعاقبتكم على سلوككم وانتهازيتكم واطماعكم بل ووقاحتكم.. اعيدكم الي عبارة خالدة تذكروها جيدا، تونا ما بدينا...

 

سعود الريس!