أعتذر بادئ ذي بدء لهذا العنوان الذي يسبب شيئا من الاحباط، ولكن اليس ذلك هو واقعنا؟

ألا تقف مجموعات واسعة من المتعلمين الذين ينظر اليهم الناس العاديون بوصفهم النخبة ضد أي محاولة لتجديد الفكر الاسلامي؟

ألم تكشف السنوات الأخيرة للصراع في سورية الموقع الحقيقي للعقل الجمعي الذي أظهر سرعة الانقياد لقيادات فارغة العقل، محدودة التفكير، جاهلة الى حد الأمية عن حقائق العصر ومبادئ السياسة، فقط لكونها ترتدي الثوب الاسلامي بأكثر حالاته جمودا ومحافظة وشكلانية؟

أليس سبب رئيسي من الأسباب العميقة للمأساة السورية يكمن في ذلك الانقياد شبه الأعمى والذي أوصل الحركة الشعبية لجدار مسدود؟

حتى اليوم ما زالت دعوات تجديد الفكر الاسلامي تلاقي الكثير من أشكال الممانعة والتشكيك، وهي ممانعة أكثر قوة وعمقا مما يظهر على السطح، تتغلغل في المجتمع من الأسفل بطرق لا حصر لها تاركة سطح المجتمع للمثقفين ولوسائل الاعلام الذين لا يعرفون كم هو محدود تأثيرهم في العقل الجمعي وعجزهم عن اختراقه واحداث تغيير في المفاهيم التي تتحكم في المواقف المصيرية.

من أجل ذلك ثمة ضرورة للبدء من نقطة الصفر، هل يحتاج الفكر الاسلامي الى تجديد؟

نعم فالاسلام لم يكن فقط دينا اقتصر على العلاقة بين الانسان وربه، لقد تجاوز الاسلام ذلك منذ أمد بعيد، وأصبح اضافة لما سبق نظام حياة وتفكير للمجتمع وتداخل مع السياسة والحكم والثقافة واللغة وأعاد صياغة العادات والتقاليد والأعراف بصورة شاملة عبر تاريخه الطويل.

من أجل ذلك لم يعد ممكنا تغيير العقل العربي دون تجديد الفكر الاسلامي وتلك هي عبرة تجربة مئة عام من النهضة العربية، ألم نعد بعد كل محاولات النهوض الى نقطة الصفر، الى أكثر أشكال الفكر الاسلامي صلابة وجمودا وتخلفا؟

حتى اليوم فان كل تطور طرأ على الفكر الاسلامي جاء كضرورة بفعل تغير نمط الحياة ووسائل التواصل ولم يأت بطريقة متماسكة ومنسجمة ومتكاملة ولذلك نرى محاولة الالتفاف على ذلك التطور الذي يشبه النمو الفيزيائي لجسم الانسان، فالعقل الجامد الموروث لم يلق سلاحه وهو يبحث باستمرار عن وسائل استيعاب تطور الفكر الاسلامي بفعل الضرورة لاعادته الى المربع الأول.

حسنا أيها السادة، أنتم تنكرون ضرورة تجديد الفكر الاسلامي لكن الفكر الاسلامي تطور بالفعل، وكما سبق فقد تطور بفعل الضرورة لكنه تطور وتغير فلماذا تعارضون تطوره بفعل العقل والتفكير؟

منذ أكثر من مئة عام بقليل كانت القهوة محرمة شرعا بفتاوى "العلماء" في ذلك الوقت وربما يستغرب كثيرون ذلك اليوم لكنها الحقيقة، وقد حوربت المقاهي واعتبرت مكان فسق وفجور وأغلقت بفتاوى شرعية فقط لكونها تقدم القهوة.

ثم حرم لبس البنطلون واعتبر بدعة وتقليدا للغرب، ثم حرم التلفزيون بفتاوى شرعية باعتباره مفسدة، وجميع جيلنا يتذكر كيف كان يهاجم التلفزيون من على منابر الجمعة ويقال عن الهوائي اللاقط (الانتين) انه قرون الشيطان، وكان يوصف برقة الدين والتحرر من يقتني التلفزيون في بيته.

في أوائل القرن العشرين كان تعليم المرأة يهاجم من قبل عامة رجال الدين، وفي منتصف القرن ومع انتشار الجامعات كان ارسال البنت للجامعة يعني السماح بالفتنة واستهتارا بالدين وذلك كان رأي عامة رجال الدين في ذلك الوقت حتى "المتنورين" منهم.

أما اليوم فلا أحد يحرم القهوة ولا أحد يحرم لبس البنطلون ولا أحد يحرم التلفزيون بل ان الأقنية الفضائية الدينية أصبحت فعالة أكثر من منابر الجمعة.

واليوم يرسل رجال الدين بناتهم للجامعات، ولا أحد يجاهر بضررة بقاء المرأة في البيت وقصر تعليمها على أعمال البيت وأصول الدين.

وربما يجادل أحدهم بأن كل ذلك ليس فكرا اسلاميا، بل ليس فكرا أصلا وانما هو مجرد فتاوى أو اجتهادات أو آراء.

فاذا لم يكن الفكر وراء الفتاوى والآراء فما هو الفكر اذن؟

تبين الأمثلة السابقة تطورا في العقل الاسلامي الجمعي، لكنه تطور السلحفاة التي تمشي مضطرة بسبب الظروف المحيطة.

ما نحتاجه اليوم هو أن نستخدم أقوى سلاح يمتلكه الانسان وهو العقل لجعل ذلك التطور متناسبا مع العصر بالوعي والتفكير، لا أن ننتظر دفع الضرورات القاهر.

استقالة المثقفين عن تلك المهمة، بسبب الخوف من الجمهور والسعي لارضائه ومسايرته يجرد المجتمع من المناعة ويسلمه الى أكثر التيارات تعصبا وجمودا وتلك مأساة حقيقية


معقل زهور عدي.