(قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن ادفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير) فولتير

حضرت بإرادتي وليس بدعوة من أحد، للقاء نظمه أصدقاء قدامى، كنا ننتمي جميعنا إلى الشبيبة الاتحادية، إلى تلك المؤسسة التي علمتني المبادئ الأولية للسياسة، وإلى اليوم لست بناكر لفضلها. كانت ليلة جميلة، فاحت منها رائحة العلاقات الإنسانية، نسينا جميعا الماضي، ولم يستطع أن يفرق الحاضر ارتباطنا الإنساني النبيل.

ورغم أن البعض ظل في الحزب، والبعض الآخر انتقل إلى أحزاب أخرى، والقليل انزوى لذاته، كان لقائنا إنساني صرف، فتحنا أيدينا للعناق، رجعت بنا الذاكرة إلى الماضي القريب، وحتى البعيد، تحاكينا قصصا وروايات وقائع وأحداث، ثم سألنا بعضنا البعض عن أبنائنا ومسارهم الدراسي، وعن أحوال أسرنا، سألنا عن الذين لم يحضروا، عمن تغيب إراديا، وتذكرنا بقوة من غيبه قصرا الموت أو المرض.

تبادلنا أرقام هواتفنا من جديد، وحتى العناوين، حكينا بعض القفشات وضحكنا جميعا ملء شدقينا، فرحين بهذا اللقاء النبيل، هذه الصدفة التاريخية، وهذا الحضور الجميل، والأجمل أننا غيبنا السياسة ومشاكلها، واستحضرنا فقط الإنساني وأبعاده، وتعاهدنا على اللقاء مرة أخرى.

خلال هذا اللقاء تركنا خلافاتنا جنبا، وحتى خيباتنا، فقط تعانقنا من أجل توافق إنساني، ونسيم آت من زخم نضالي في ماضينا قد تختلف نكهته بنضال حاضرنا، وهكذا حافظنا على رقي هذا اللقاء، على جماليته وإنسانيته، تبادلنا الكثير من الابتسامات، والكثير من السخرية والقليل جدا من السياسة.

كان الحضور غفيرا، يتجاوز المئتين، جلهم أصدقاء قريبين وبعيدين، معظمهم إن لم أقل جلهم غزى الشيب رؤوسهم، سخرنا من ذلك، لكنه حكم الزمن وطبيعة السنوات.

كان اللقاء لحظة نضج إنساني، وكان السؤال، وماذا بعد؟ كثيرون قالوا أنه سؤال مرفوض، فقط علينا أن نلتقي، ثم نلتقي، لأنه حق إنساني، ولأنه واجب أخلاقي، ولأنه ذكرى تعود بنا إلى الشباب، تذكرنا كيف حملنا آنذاك حلما كبيرا لتغيير الأوضاع، تذكرنا كيف سعينا من أجل ذلك بنكران للذات، وباستعداد للتضحية، لم نسعى لتقييم التجربة، أو حتى لنتحاسب، نحن هنا لنرقص، ولنغني، لأننا كنا على صواب، فلم نرهب أحدا، ولم نغتال شخصا، بل كنا نريد وطنا أجمل من الذي عشناه، رغبنا في حرية للناس أكثر من التي مارسناها في حياتنا واختياراتنا، حلمنا بغد أفضل للشعب، بوطن يتسع للجميع، قد نكون نجحنا ولو جزئيا، أو حتى أخفقنا، لكننا حاولنا، وهذا هو المهم.

ولأننا كنا وراء هدف مثالي، فلم نحفظ في نفوسنا على شيء من أحد، تجاوزنا أخطائنا، وتصالحنا مع ذواتنا، كنا متفقين في شبابنا، وحتى ونحن مختلفين في كبرنا لم نؤاخذ أحد، ولم نحاسب أحد، إذ اعتبرنا ذلك طبيعيا، وحقا محترما، ولذلك التقينا.

تبادلنا قصص حياتنا، وعدنا بالوراء إلى قفشتنا، تذكرنا أصدقاء وشهداء وقيادات وزعامات، لم نفكر في أخطائهم، كما أننا لم نفكر في انتماءاتنا حاليا، بل فكرنا في شيء واحد هو أننا عشنا معهم، كانوا مربينا، وكانوا جزء من حياتنا، وكنا جزء من حركيتهم وقيادتهم، فالشبيبة الاتحادية كانت مدرسة بمعنى الكلمة، وستظل كذلك، تعلمنا فيها الكثير، والاعتراف فضيلة، والفضيلة من شيم تلك المرحلة.

وحينما انتهينا من هذا اللقاء، خرجنا متواعدين على لقاء قريب، وفي موعد قريب، لنرقص من جديد، ونبتسم من جديد، ونتعانق من جديد، لأننا مقتنعين أن السياسة تنتهي، والمواقف تتغير، فقط البعد الإنساني من يبقى فينا، فهذا ما يستمر في الوجود، والباقي إلى زوال.


عبداللطيف وهبي