إن مسألة الحقوق والواجبات من المسائل الشائكة، التي يصعب تناولها والحسم في مدخلاتها ومخرجاتها؛ فإذا كان أمرها محسوما لدى الدول التي قطعت أشواطا بعيدة في مسار الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الحال غير ذلك في الدول التي لا تزال تتلمس طريقها على دربها، يكتنف معالجتها مجموعة من الإشكالات، بما أنها لم تقطع بعد مع مجموعة من الآفات كالأمية وما يلازمها من تخلف على أكثر من صعيد، ومشكلة الفقر الذي ترزح تحت وطأته الشعوب ليس بسبب ندرة الثروات دائما، خاصة في البلاد الغنية بمواردها الطبيعية، بقدر ما هو بسبب سوء توزيع الثروة وغيرها من العوامل كالزبونية والمحسوبية والشطط في استعمال السلطة، واستغلال المنصب لقضاء مآرب غير مقبولة شرعا وقانونا.

على المستوى النظري، فمسألة الحقوق والواجبات لا اعتراض عليها، يسهل الخوض فيها بالتحليل والمعالجة؛ لكن الإشكال يطرح عند أول خطوة على مستوى التنزيل. يزيد أمرها تعقيدا ارتباطها ليس فقط بالمسؤوليات الكبيرة التي على عاتق الدول اتجاه مواطنيها، كالحق في التعليم والصحة والأمن والسكن والحق في المعلومة وحق الانتخاب وغيرها من الحقوق؛ لكن لارتباطها أيضا بالأفراد في علاقاتهم الأسرية كأزواج. فالطرفان لهما حقوق على بعضهما لا بد من نيلها، وعليهما واجبات لا بد من القيام بها، إذ يستحيل أن تستقر حال البيوتات وتستمر العلاقة في حال الإخلال بالتوازن بين طرفي المعادلة (حقوق/ واجبات). زد على علاقتهما بحقوق الأولاد وواجباتهم؛ بل تتعدى إشكالية الحقوق والواجبات الأشخاص في علاقتهم بعضهم ببعض، إلى حضورها القوي حتى بخصوص الفرد في ذاته. فالإنسان مع نفسه له حقوق وعليه واجبات. فهل من حقه مثلا أن يدفع بنفسه إلى التهلكة أو يحرمها من حاجاتها الطبيعية البيولوجية؟ أم هل من حقه أن يضع حدا لحياته؟ وإن كان القانون الجنائي يخلو من متابعة الجاني على نفسه بما أن القانون لا يعاقب الأموات؛ وحتى محاولة الانتحار الفاشلة فقد أحجم المشرع عن تجريمها، لكي لا تكون ذريعة لإعادة المحاولة فرارا من العقاب، دون أن يمنع هذا من تحريك الفصل 407 الذي يجرم كل مساعدة على الانتحار، فيعاقبه بالحبس من سنة إلى خمس سنوات، لتقديمه أية مساعدة وهو على علم بالجريمة، كأن يزوده بسلاح أو سم أو أداة لازمة لتنفيذها. فإذا كان هذا شأن القانون، فالشريعة الإسلامية تحرم قتل النفس جملة وتفصيلا.

لمقاربة مسألة الحقوق والواجبات، آثرت بسطها وفق مجموعة من الملاحظات نوردها كالآتي:

- إن طرق باب الحقوق والواجبات يتطلب أولا وقبل شيء وعيا خاصا وشجاعة من نوع أخص، بما أن القضية تحتاج إلى فضيلة الاعتراف بما لك وبما عليك بتجرد كامل من الذاتية والأنانية. فالواجبات والحقوق متلازمان، لا يمكن بحال الفصل أو التفاضل بينهما. فإلى أي حد نلمس التوازن بينهما في حياتنا الاجتماعية؟ وهل حماستنا للمطالبة بالحقوق، توازيها على قدم المساواة حماستنا للقيام بالواجبات؟

- ترى هل يعرف المواطن من أصله أين تبتدئ حقوقه وأين تنتهي؟ وإن عرفها فهل يعرف زمن المطالبة بها، وكيفية الحصول عليها؟ وهل يعرف متى يرفع صوته عاليا للمطالبة بها، ومتى يحجم عن ذلك؟

- مقابل الحقوق فهل نخصص وقتا كافيا للتدقيق فيما علينا من واجبات، كما لا نألو جهدا في معرفة الحقوق، والسعي نحو تحقيقها بكل الوسائل؟ وإن كنا نعرفها فهل هي مرتبة لدينا ترتيبا منطقيا، نميز بين أساسها من ثانويها، معرفة تؤهلنا إلى إدراك ما ينبغي البدء به وما ينبغي تأجيله إلى موعده؟ وهل نعرف أصلا ما بين الحقوق والواجبات من اتصال وما بينهما من انفصال؟

- كم من واحد يملأ الدنيا زعيقا من أجل حق من الحقوق يُحرم منه وقد يكون هذا الحق ثانويا، فيعمد للواجبات ليُخِلُّ بها جملة وتفصيلا، غير مكترث بحقوق الآخرين المعطلة. فعلى الأقل قليل من الإنصاف بالعمل بمبدأ "العين بالعين"، أما الإخلال بجميع الواجبات من أجل حق واحد، فمنتهى الأنانية.

- وللأسف، يكرس هذا التناقض السافر جل المؤسسات الحزبية والنقابية وتزكيها.

فما يهمها غير استدرار تعاطف العمال والموظفين وكسب ودهم، ومن تم تزويد أرصدتهم بالأصوات تحسبا للاستحقاقات الانتخابية. فتجد الشعارات في العادة لا تخرج عن نطاق المطالب والحقوق، في تجاهل تام الحث على القيام بالواجبات سواء بسواء، مما جعل العمال وأرباب العمل في صدام مستمر ومواجهة لا تنتهي. في حين، فالوضع الطبيعي أن تكون الشركة مواطنة يهمها تحسين وضع عمالها، والعامل بمثابة شريك يهمه الرفع من رأسمالها، بما أن مصلحته مرتبطة بالرفع من أسهم شركة مشغله. فهل نستحضر خطورة غياب ثقافة الواجبات مقرونة بالحقوق لدى كل الشرائح المجتمعية، وانعكاسها على أية تنمية مجتمعية؟

- ألا ندرك أن حقوقنا التي لا نألو جهدا في المطالبة بها، ونخوض من أجلها وقفات تحسيسية وإضرابات قد تصل أحيانا ذروتها بإعلانها مفتوحة، مرتبطة أساسا بحقوق غيرنا؟ فأي تقاعس في القيام بواجب ما، هو بالأساس هضم لحق من حقوق الغير؟

فالتلازم قدري وأزلي بين الواجبات والحقوق. المفروض أن يكونا مرتبطين ببعضهما ارتباط الإنسان بظله. إنهما وجهان لعملة واحدة.

بالمثال، يتضح المقال. التلاميذ والطلبة مثلا من حقهم أن ينالوا حقهم في التعليم وفق الغلاف الزمني كاملا مكمولا، والأسر من حقهم أن يتعلم أبناؤهم تعليما جيدا مواكبا للعصر؛ فالعالم اليوم أصبح قرية صغيرة، قد يبدأ تعليمه في أقصى شمال الكرة الأرضية، ويتمه بأقصى الجنوب. فهل يبدأ من الصفر؟ لكن أين له هذا الحق المكفول قانونا مع موجة التوظيفات المباشرة التي سبق اعتمادها بدون تكوين يذكر؟ وأنى له إدراكها مع التعاقد بتكوين سريع مهلهل يطرح أكثر من إشكال، ينعكس سلبا على العملية التربوية برمتها؟

وفي الآن نفسه من حق الأستاذ أن ينال حقوقه غير منقوصة، إذ أنى له أن يؤدي مهمته ويحاسب على التقصير فيها، وهو يعيش تحت وطأة حقوقه المهضومة؛ فالسؤال هو: كيف السبيل لتحقيق الحقوق لكلا طرفي العملية التعليمية (طالب/أستاذ) بدون الإخلال بالواجبات، بما أنه في نهاية المطاف فالتلاميذ والطلبة عليهم المعول، وهم عماد نهضة البلد وتقدمه؟

في سياق التربية والتعليم، لا بد أن نتساءل عن حضور ثقافة الحقوق والواجبات في مناهجها. فهل من نصوص، أو أنشطة موازية تؤكد أن كل الواجبات والحقوق مرتبطة بحقوق الغير وواجباته. إنها متلازمة لا مناص منها، وأي خلل يعتريها فإنه لا محالة سيؤدي إلى العبث، وإلى أعطاب اجتماعية، نتحمل جميعا تبعاتها وآثارها السلبية، باعتبارنا أفرادا أو مجتمعات. فالتوازن بينهما هو المدخل الرئيس لأية تنمية مجتمعية.

مجال آخر لا يقل خطورة عن سابقه في حال الإخلال بالمعادلة (حقوق/ واجبات)، قطاع الصحة الذي نعيش منذ مدة على إيقاع غليانه. فما الذي يمثله أي حق من الحقوق المهضومة، أمام ضياع أرواح المواطنين ورحيلها إلى دار البقاء؟ وإذا كانت الحقوق والمطالب معقولة، فلم الشد والجذب بين المهنيين والوزارة الوصية؟


بوسلهام عميمر