قد يكون عمر البشير هو من أوحى لشعبه بالخروج عليه بعد أن قام بزيارة إلى سوريا، البلاد الجريحة المضطربة المشرئبة للإفلات من طاحونة الفوضى، اعتبرها كثيرون خارج السياق. فلربما فاته مع طول العمر في الحكم أن الشعوب قد تقلد بعضها البعض وتتمرد أو تثور، أو لربما لم ينتبه إلى أن الثورات أو الانتفاضات قد أضحت معدية جدا في زمن الإعلام الرقمي وفي زمن لم تعد" تنجو" فيه من عصف الاضطرابات حتى دول نعتبرها نحن العرب تنعم في الرخاء والازدهار، أو لعله قد طاب به المقام فوق سنام الجمهورية إلى حد الثمالة بالسلطة فلم يعد يخشى في غمرة السكرة لا داء ولا أعداء ولا يهاب لا فورة أو حتى ثورة.

المؤكد أنه يعتد بنفسه أشد الاعتداد، فلم يصر يهمه حتى أن يحترس من ثورة الفجأة أو يتعوذ من سوء المنقلب عند السفر، وكيف يفعل هذا وهو الرئيس "الماجد" الذي صار ملكا رغما عن أنف الجميع، ورغما عن الديمقراطية وحتى رغما عن كل المجتمع الدولي.

فها هو الآن بعد أن كان يسافر غير محاذر ولا مترقب أن تخطفه أوامر المحكمة الدولية الجنائية أو يعتقله الانتربول ذات زيارة خارج البلاد، قد دارت عليه الأيام، وعاد يخشى أن تأتيه الطعنات في الظهر من داخل البيت، وتأخذه الثورة على حين غرة على يد هؤلاء العاقين، بعد أن أصابت السودانيين "لوثة" الفوضى التي "جلبها" لهم معه بنفسه من دمشق. فليته ما فعل، يقول الآن في قرارة نفسه.

هو الجوع يفعلها إذن في بلد الثروة الفلاحية والحيوانية الهائلة التي لقنونا في الصغر في إنشاء الوحدة العربية وتكامل الشعوب العربية أنها تكفي لوحدها أن تكون غذاء لكل أبناء الوطن العربي، فتكفينا مدى الدهر شر التسول على أعتاب الغرب، لكن تبين الآن، ويا لهول ما تبين، أنها لا تكفي حتى السودان.

فكما أن السيف بيد الجبان خشبة، كذلك الثروة بيد العاجزين أضغاث أحلام. ولهذا أزف الموعد وسرت الثورة كالنار في الهشيم من شمال السودان حتى العاصمة الخرطوم في يومين فقط. يومان كانا كافيين لكي ينطلق العفريت من القمقم، و"يتطرف" الشعب، ويرفع العتبة عاليا في الاحتجاجات التي يقوم بها، ويقفز نحو الأعلى من مطالب كانت في البداية اقتصادية إلى مطالب سياسية ويصرخ بأعلى صوته بأنه يريد تغيير النظام.

ربما سولت للبشير نفسه وقد ضاقت به السبل، واختلط عليه الأصدقاء، أن يلعب أيضا على الحالة السورية، وقد بدأ يلوح منها الخيط الأبيض من الأسود، ويرسل رسائل إلى الكل، وبالأخص رسالة إلى شعبه مفادها أن الوقوف في وجه الحاكم لا يقود إلا إلى الفوضى والفتنة والخراب. ولربما أراد شعبه تأدبا أن يقابل رسالته بأبلغ منها فابتلاه بنقص في الطاعة ونقض مفاجئ للبيعة. فسبحان مبدل القلوب وسبحان مبدل الأحوال.

قد يكون شح السلع الغذائية وارتفاع أسعار الخبز وندرة الوقود والغاز وقلة السيولة النقدية وهوان العملة السودانية وانهيارها وهروب الرأسمال من الاستثمار ببلد أدت به تصاريف البشير أن يدرج في قائمة الإرهاب، كما تؤكد ذلك التقارير، قد يكون ذلك هو ما حرك كأسباب مباشرة الناس نحو التظاهر بالشارع؛ فهي الضوائق الاجتماعية التي تطبخ عادة الطبق المر للثورة.

لكنهم يبقون مع ذلك فقط تلك القشة التي قصمت ظهر بعير البشير؛ فالمطالب الاقتصادية حين يتردد صداها في كل البلاد لا تكون إلا برهانا على الفشل السياسي، وعلى سوء الاختيارات القديمة التي تخصب بسنوات من قبل جنين الثورة، ودليلا على خروج الثقة في النظام من قلب الشعب قبل أن يخرج هذا الشعب لقلب هذا النظام. فتستحيل تلك المطالب غليانا وتخريبا وإضراما للنار في مقرات الحزب الحاكم تتناقله كل شاشات العالم.

البشير، وهو الملك غير المتوج على السودان المتوحد مع كرسي الحكم الذي أضحى عبئا يئنّ به كاهل الشعب، صار ينتمي لنادي الجمهوملكيات العربية. لا هو بالملك المعلن فيتعين توقيره طول الحياة، ولا بالرئيس الذي يجوز تغييره بالأساليب الديمقراطية، قد كان واجه غير ما مرة انفلاتات الشارع في عز الربيع العربي، لكنه أفلت منها بقدرة قادر.

قرر هذه المرة أن يكابر وأن يتهم المندسين بين الجماهير لإفساد أخلاق الشعب وسلمية الشعب، وكأنه لا يرى أن المندسين قد يكونون هم كل الجماهير، أو لا يري، كأي معمر في السلطة، أن الكتاب قد يكون بلغ أجله الآن، خصوصا وقد بدأ حتى أنصار النظام ينفضون من حوله بعد أن فقدوا الحماسة الضرورية للدفاع عن منظومة استنفدت مداها.

ومع ذلك، فإن ما يحرك السودانيين في الحقيقة، حسب وجهة نظري، ليس الجوع أو الفقر، بل هو الملل والسأم من هذا الرئيس الذي يجثم على صدورهم بهذا الشكل. فلا هو بالرئيس الذي يسمح بتداول السلطة بشكل منتظم كما تفرض ذلك الديمقراطية التي نعرف، ولا هو بالملك المعلن الشرعي الذي يسمح بتناوب حقيقي أو شبه حقيقي على السلطة على مستوى رئيس الحكومة يمكن الناس على الأقل من تغيير الوجوه ومن استبدال ببعضها ببعض آخر وضخ الدماء الجديدة والتداول على السلطة ومد خيط الرجاء عوض أن تشرب من فرط اليأس حليب السباع فتقرر تبديل هذا الرئيس الملك.

لو كان هناك منطق للسياسة في البلاد العربية لغادر عمر البشير السلطة منذ زمن، ولفعل ذلك بالتأكيد منذ أن أضاع خارطة البلاد وقلصها وخسر جنوب السودان وخسر معها ثلاثة أرباع الثروة النفطية. فالرئيس الذي لا يصون حوزة البلاد ولو كان صاغرا مضطرا لذلك، عليه بكل أريحية أن يتنحى ويفسح الحكم لغيره، فذلك أقل الإيمان، وأقل الديمقراطية والحكم الرشيد.

ولكن مع ذلك وفي حالة البشير، تقرر بعاطفة الشعب أن يعتبر الإخفاق نجاحا. وارتأى البشير كأي قائد "لا تجود السماء بمثله" على السودان ليس فقط البقاء في السلطة إلى حين ولكن الخلود فيها. بل ورغم أنه كان أيضا مطلوبا للعدالة الدولية فلا بأس أن يحتجز ويرهن كل السودان معه. فهذه هي الشهامة العربية وهذه هي الرجولة العربية: الرئيس وشعبه في العرف الديكتاتوري لا يختصمان ولا يفترقان لا في السراء ولا في الضراء؛ أليس الشعب المخلص هو الذي يتحمل كل "جرائر" الرئيس!؟

والآن، هل تكون هذه الثورة مجرد زوبعة في فنجان؟ هل يتحرك الجيش؟ وهل يحسم الوضع ويتخلى عن البشير أم يبقى في ركابه إلى النهاية؟ ماذا ستفعل التنظيمات الحزبية السودانية؟ هل تبقى على تقيتها أم تتبنى الثورة إذا استوى عودها؟ ثم هل تظل هذه الاحتجاجات عفوية أم سيظهر لها قادة ميدانيون من رحم الشعب ومنصات الإعلام البديل؟ أم إن كل هذا الهيجان ما هو إلا جولة من شاكلة أخرى "لحب عنيف" بين الرئيس وشعبه سرعان ما تترك المكان للعاطفة الجياشة المتمكنة من نفوس الشعوب العربية تجاه حكامها الباقين أبدا؟

الأيام القليلة المقبلة ستكون حاسمة في كشف المسار الذي ستأخذه الأحداث في السودان: هل ستؤول إلى انقلاب أم تتمخض عن ثورة عارمة ورسمية أم تسفر عن فوضى قاتلة؟ وبالخصوص هل ستكون بردا وسلاما أو خرابا وهلاكا؟ فنحن العرب مع تجربة الربيع العربي الذي حول في النهاية من خلال الثورات والثورات المضادة دولا "قائمة" إلى أشباح دول، صرنا نضع أيدينا على قلوبنا عند كل ثورة. فلا ندري أين يكمن خير الشعب؟ هل في الرضى بما قسم الله له من تخلف مشوب بأمن أم فيما تبشر به الثورة من يسر وتخفيه دائما بين تلابيبها من عسر قد يترك الدول أثرا بعد عين؟


د. خالد فتحي



*أستاذ بكلية الطب بالرباط دكتور في العلوم السياسية