جعل حسام سعدالدين الحريري جدّه فخورا به. لا شيء يدوم مثل العلم والاستثمار في العلم، أي في تطوير ثروة اسمها الانسان. هذا ما قام به رفيق الحريري الذي اصرّ على تعليم آلاف اللبنانيين من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق في ارقى جامعات العالم على حسابه الخاص. كان هذا الاصرار على العلم والتعليم من بين الأسباب التي حولته هدفا للمنادين بسيادة ثقافة الموت في طهران ودمشق.

هذه ليست اتهامات عشوائية للنظامين الايراني والسوري بمقدار ما انّها صادرة عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. كشف الادعاء في مطالعته ما يزيد على ثلاثة آلاف دليل تدين أولئك الذين نفّذوا جريمة اغتيال رفيق الحريري. لم تكن تلك الجريمة موجّهة الى شخص بمقدار ما انّها كانت تستهدف اغتيال لبنان أيضا. قد تكون الجريمة الاولى لرفيق الحريري انّه علم آلاف اللبنانيين وأعاد الحياة الى بيروت وأعاد وضع لبنان على خريطة الشرق الاوسط والعالم. كان يدرك ان مستقبل لبنان مرتبط بتطوير الانسان وليس في تحويله الى مجرّد عنصر في احدى الميليشيات.

تكمن المشكلة في انّ لبنانيين كثيرين لا يريدون ان يتعلّموا. لذلك كان سهلا على هؤلاء عدم استيعاب معنى ان يتخرّج شاب لبناني عربي من كلية ساندهيرست العسكرية البريطانية التي تأسست في العام 1801. انّها كلية عسكرية تخرج رجالا يتطلّعون الى مستقبل افضل وليس فقط ضباطا عسكريين بريطانيين. لذلك مرّ فيها الملك حسين وابنه الملك عبدالله الثاني وحفيده الأمير حسين بن عبدالله وليّ العهد الأردني حاليا. لذلك، أيضا، مرّ في الكلّية السلطان قابوس، سلطان عُمان وعدد كبير من كبار المسؤولين في دول الخليج العربي. ليس ما يدعو الى سرد جميع أسماء الذين تخرّجوا تلك الكلية. هناك عدد من أبناء الشيخ زايد، مؤسس دولة الامارات العربية المتحدة، رحمه الله. هناك عدد لا بأس به من الشخصيات البحرينية والقطرية، بمن في ذلك، الشيخ حمد بن خليفة الأمير السابق لقطر. بين السعوديين، هناك الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز الذي يستطيع ان يفتخر بانّه أعاد الحياة الى صحيفة "الحياة" اللبنانية عندما أعاد اطلاقها من لندن في العام 1988.

قائمة خريجي ساندهيرست من القادة العرب طويلة وهي تعطي فكرة عن اهمّيتها على صعيد اعداد الشاب كي يتمكن من مواجهة اقصى الظروف الطبيعية صعوبة، بما في ذلك النوم في العراء داخل كيس مخصص للنوم في ظلّ حرارة تبلغ نحو العشرين تحت الصفر. هذا لا يعني ان الشاب الذي يدخل الكلّية لمدة أربعة وأربعين اسبوعا يتعلّم كيفية التكيّف مع ظروف الطبيعة القاسية فقط. هناك أيضا دروس في العلاقات الدولية تعد هذا الشاب للالتحاق بأرقى الجامعات العالمية لمتابعة دراسته العليا.

باختصار شديد، لا يعني الالتحاق بساندهيرست الالتحاق بالجيش البريطاني. انّها كلّية فريدة من نوعها تعدّ من يلتحق بها كي يكون مستعدا ومؤهّلا جسديا ونفسيا وعقليا، في الوقت نفسه، لدخول الجامعات الكبرى من بابها الواسع.

تعطي بعض ردود الفعل على تخرّج حسام سعد الحريري من ساندهيرست فكرة عن مدى الجهل الذي يسود قسما من المجتمع اللبناني. انّها تعطي بكل بساطة فكرة عن تخلّف لبنان بعدما كان احد ارقى دول المنطقة، بل احد ارقى دول حوض البحر الأبيض المتوسط. اين كانت اليونان وقبرص وتركيا عندما كان لبنان ينظّم دورة الألعاب المتوسطية في عهد كميل شمعون وعندما كانت هناك مهرجانات في مستوى مهرجان بعلبك؟

الاكيد ان ليس ما يدعو الى سرد ما كان عليه لبنان في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي عندما كان مطار بيروت من بين اهم خمس مطارات في العالم. الأكيد ان ليس ما يدعو الى تعداد ما تحقّق في عهد فؤاد شهاب من بناء مؤسسات لدولة لبنانية حديثة وتنظيم مدني.

لم تكن الحملة على سعد الحريري وعلى نجله الأكبر بريئة. كانت تعبيرا على مدى الحقد على لبنان وعلى ما بناه رفيق الحريري انطلاقا من إعادة الحياة الى بيروت. هذا كلّ ما في الامر. مطلوب ابتعاد لبنان عن العلم وعن العالم المتحضّر. لا دليل أوضح على ذلك من الحال التي بلغتها الجامعة اللبنانية التي يفترض ان تكون وجها من الاوجه الحضارية للبنان. تحوّلت الجامعة اللبنانية الى مزرعة لحزب مذهبي يريد ان يفرض ثقافته على اللبنانيين الآخرين، بدل ان تكون هذه الجامعة الوطنية رمزا للعيش المشترك ولثقافة الحياة والانفتاح على كلّ ما هو حضاري في هذا العالم. ثقافة الحياة هي التي جعلت للبنان دورا رائدا في المنطقة في كلّ المجالات. كم عدد القادة والمسؤولين العرب الذين تخرجوا من الجامعة الاميركية في بيروت التي تأسست في العام 1866؟ هل هناك من يريد ان يتذكّر الدور الذي لعبه رفيق الحريري في حماية تلك الجامعة، وجامعات أخرى، وفي المحافظة على من يستطيع المحافظة عليه من أطباء مستشفاها في ثمانينات القرن الماضي عندما كان طموح كلّ طبيب لبناني الهجرة من لبنان... الى الولايات المتحدة وأوروبا او على احدى دول الخليج العربي تحديدا. لم يهاجر أي طبيب لبناني له شأنه الى طهران.

تنمّ ردود فعل بعضهم على تخرّج حسام سعد الحريري من ساندهيرست ثم مجيئه الى بيروت لزيارة قبر جدّه عن جهل وجهالة وجاهلية لا مثيل لهم في العالم. هناك بكل بساطة من يريد ان يدفع بلبنان الى السقوط في لعبة الشعارات الفارغة. اذا كان لبنان لا يزال صامدا الى اليوم، فهذا عائد قبل ايّ شيء الى ان الانسان اللبناني ما زال يقاوم. انّه يقاوم بفضل ما بقي لديه من رواسب علم تلقاه في مدارس وجامعات راقية وبفضل مؤسسات صنعتها العهود الثلاثة الاولى بعد الاستقلال. عهد بشارة الخوري – رياض الصلح، عهد كميل شمعون، عهد فؤاد شهاب. انّه يقاوم بعدما أعاد رفيق الحريري الامل الى اللبنانيين وأعاد قسما كبيرا منهم الى لبنان قبل ان يأتي من يغلق وسط بيروت لمدة تزيد على سنة في 2007 و2008.

بدل العيش في أحلام النفط والغاز المكتشفين قبالة الشاطئ اللبناني، من المفيد العودة الى الواقع. الواقع يقول ان لا ثروة اهمّ من الثروة الانسانية وان الجهل والجهالة والجاهلية تمثّل العدوّ الاوّل للبنان.

لم يعد سرّا ان لبنان يمرّ حاليا بمرحلة صعبة. ما يزيد في صعوبة المرحلة ان هناك من هو مصرّ على تدمير الانسان في قبل ايّ شيء آخر عن طريق تعميم الجهل. فالجهل يظلّ الطريق الأقصر لأخذ الشباب الى الميليشيات المذهبية ليكونوا في خدمة مشروع لا علاقة له من قريب او بعيد بلبنان.


خيرالله خيرالله