باعتباره أميرا للمؤمنين وسليلا للدوحة النبوية الشريفة، وفي إطار سهر الملك الراحل على حماية حصون الدين الإسلامي وإقامة شعائره، وعناية بتأدية المؤمنين لصلواتهم في أحسن الظروف، عمل الحسن الثاني على إنشاء العديد من المساجد، ونخص بالذكر في هذا الصدد مسجد للاسكينة البديع المقام بمدينة الرباط، والذي بناه صاحب الجلالة أمير المؤمنين من ماله الخاص، ومسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء الذي يعد أكبر مسجد في العالم الإسلامي بعد الحرمين الشريفين، كما تعتبر صومعته أعلى صومعة في العالم، وهو يمثل فخامة المعمار وهيبة بانيه.

وفكرة بناء هذه المعلمة الإسلامية قال الحسن الثاني إنها راودته منذ وفاة والده محمد الخامس؛ قائلا: "يوم وفاة والدنا سيدنا محمد الخامس طيب الله ثراه كنت قررت أن أبني ضريحه المنور في مدينة الدار البيضاء، إلا أنه بعد أسابيع ارتأيت أننا إذا دفنا سيدنا رحمة الله عليه في الدار البيضاء فسيستغرب شيئا ما علي وعلى إخوتي، نظرا لبعد المزار، كما أن عدة رؤساء دول سيضطرون إلى مغادرة الرباط والتوجه إلى الدار البيضاء لزيارة الضريح. إنني أعترف أمام البيضاويين..منذ ذلك اليوم الذي قررت فيه بناء الضريح بالرباط قررت كذلك أن أعوضهم بشيء آخر، وفكرت في بناء مسجد على شاطئ البحر، سيجعل من الدار البيضاء مدينة فريدة من نوعها. هذا المسجد سيكون فريدا من نوعه..أردت أن أبني هذا المسجد على الماء,, "وكان عرشه على الماء"..كما أردت أن يكون المصلي فيه والداعي والذاكر والشاكر والراكع والساجد محمولا على الأرض ولكن أينما نظر يجد سماء ربه وبحر ربه".

وعن "قضية الاكتتاب" التي ذهب فيها البعض إلى ما ذهب، قال الحسن الثاني: "كان في الإمكان أن يبنى هذا المسجد وترصد له ميزانية ويتم التخطيط له على سنين وسنين، ولكنني قرأت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة"..ومن هنا، يقول الحسن الثاني: "أتتني الفكرة أن أبني مسجد الدار البيضاء باكتتاب من جميع المغاربة، حتى يكون لهم فيه الفضل..وكأن ثواب بناء المسجد راجعا إليكم".

وجوابا على ردود الفعل السلبية من عملية الاكتتاب اعتبر الراحل أن "القول بأننا فرضنا مبلغا محددا على كل فئة اجتماعية هو مجرد افتراء، دافعه الحسد بصفة عامة وعدم طاعة الله؛ فهناك كنائس شرع في بنائها منذ قرون ولم يتم الانتهاء من إنجازها بعد، لأن المسيحيين لا يكتتبون لبنائها، ويمكن أن يقال نفس الشيء بالنسبة لبيعة لم يكتمل بناؤها".

"خلافا لما قيل هنا وهناك، أعتبر أن الباحث المدقق والحريص على القيام بمهمته على الوجه المطلوب هو الذي يروي ويحصي ولو مجاملة التجاوزات التي لا يمكن تفاديها، والمتصلة ببناء معلمة عظيمة مثل هذه المعلمة التي أقامت الفرصة لكل مغربي للمشاركة في بناء مسجد طبقا للسنة النبوية لينال مكانا في الجنة.. وقد تحدث في بعض الأماكن تجاوزات يتم شجبها بمجرد العلم بها. لكن عندما يتجاهل الباحثون ما هو أساسي في مشروع عظيم ويكتفون بإبراز السلبيات فقط فعندئذ يمكنني القول إن الأمر لا يتعلق بسوء نية فحسب، بل بجهل، وهذا أمر أشد خطورة"

وفي رد عن سؤال الصحافي الفرنسي François Henri في برنامج "ساعة الحقيقة"؛ وهو السؤال الذي اعتبره الصحافي مزعجا، معتبرا على أن الأموال التي صرفت في بناء المسجد طائلة، والتي جمعت من شعب لازال يعاني مشاكل الفقر والتنمية، كان جواب الملك مفحما باعتبار أمير المؤمنين أن آلاف المساجد الموجودة بالمغرب شيدت عن طريق الاكتتاب. هذا من جهة، ومن جهة أخرى قام الحسن الثاني بمقارنة صدمت الصحافي حين أضاف مجيبا:

"لنضع الأمور في سياقها التاريخي؛ ما هو رأيكم في كنيسة « Notre dame de Paris » في سياق الظرفية الاقتصادية الفرنسية التي شيدت فيها".

وعليه فالحسن الثاني ليس ذلك الذي تستفزه مثل هذه الأسئلة، إذ قال: "أنا سعيد..ولكن أقول شيئا هو أن سعادتي صوفية، لأنني أومن بالله. ويقول الرسول "ص": "من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى له الله بيتا في الجنة"..ويضيف الرسول الكريم كذلك أن "أحب البلاد إلى الله مساجدها".

وللمسجد في الإسلام رسالة تربوية عظمى، ولذلك اهتم المسلمون ببناء المساجد في كل أرض تواجدوا عليها. ومسجد الحسن الثاني ما هو إلا بيت من بيوت الله، وإن تميز عنها بحسن معماره واتساع مساحته فما ذلك إلا تعبير عن عبقرية الشعب المغربي المسلم، ومبدع فكرته الحسن الثاني، إذ استوعب الأسلوب الموحدي والمريني والأندلسي والسعدي. سواء في هندسة البناء أو المعمار تلقى مسجد الحسن الثاني ذخيرة الميراث المغربي؛ ابتداء من "عقبة بن نافع وموسى بن نصير.." الذين وحدوا البلاد تحت ظل راية الإسلام وبنوا وشيدوا مناراته.

كما كتب أحد الباحثين أن مسجد الحسن الثاني يشكل حدثا يستحق إثارة اهتمام المشتغلين بعلم السياسة، لأنه يشير إلى دلالات متعددة حول تطور النظام السياسي المغربي، ولكن كذلك حول الطريقة التي تشرعن بها الأنظمة العربية – الإسلامية لنفسها.

ويمكن اعتبار بناء مسجد الحسن الثاني رمزا لمعنى كبير، هو استمرارية رسالة المغرب الحضارية، على الوتيرة نفسها التي سار عليها في عصوره كلها؛ ذلك أن أركان الدولة العصرية في المغرب لا تتنافى بأي وجه من الوجوه مع استمرارية هذه الرسالة، التي هي رسالة الإشعاع والإحياء والتجديد المتواصل الذي لا انقطاع له..فرسالة الإسلام في المغرب هي رسالة المستقبل.


عبد الرحمان شحشي



*أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري بجامعة الحسن الأول-كلية الحقوق سطات.