يتصاعد التوتر وتتوالى الأحداث في مربع الحكم والسياسة، فتتضح الأمور أكثر، وتتجلى كفلق الصبح، ويظهر للجميع أن المرأة ليست إلا عنصر تجاذبات بين القوى السياسية بتونس، وليست سوى مطية للصراع واقتطاع جزء من السلطة والنفوذ، فينكشف الاستبداد الذكوري عاريا مرة أخرى بين ثنايا دعوات السياسيين لتحرير النصف اللطيف للمجتمع بفصله عن هويته الحضارية والدينية، وتغريبه من خلال ادعاء حقوق جديدة لها قد يكون "أغفلها" الدين أو "طمرتها" التجربة التاريخية للشعوب المسلمة.

السبسي بعد أن رمى بالكرة الملتهبة للتساوي في الإرث في وجه خصومه، يردفها بالخطوة أو التمريرة الثانية، ويقطع آخر الوشائج الرفيعة المتبقية مع النهضة، بعد كشفه أن لها تنظيما سريا، وأنها ضالعة في اغتيال اليساريين شكري بلعيد والبراهمي، وأنها فكرت في تصفيته هو وهولاند، رئيس فرنسا، ولا يقف عند هذا، بل ويزيد أن بيانها الأخير هو الآخر مبطن بتهديد ضمني لرئيس الجمهورية.

والنهضة من جانبها ربما تشعر الآن بأنها قد أحرقت كل مراكب العودة إلى حضن الرئيس الغاضب الذي حماها أكثر من أربع سنوات في عز الانقلاب على الإسلام السياسي، وقد تتوجس أنها وضعت كل بيضها في سلة غريمه يوسف الشاهد، وهي سلة قد يتضح قريبا أنها مثقوبة، فعندما سيعرض قانون الإرث على البرلمان سيتذكر يوسف هذا إخوته وأباه الباجي السبسي في نداء تونس ويصوت معهم هو وكتلته إثباتا لحسن حداثته ودفعا لشبهة تشيعه للإخوان المسلمين أمام مؤسسات النقد الدولي التي تدعمه في السنوات العجاف.

وغني عن القول والحالة هذه إن السبسي وضع الآن الجميع في وضعية الإحراج، بمعنى أنه كيفما تفاعلوا مع ما يصدر منه سيخسرون في النهاية ويكون هو الرابح.

فالنهضة إذا صوتت لصالح المساواة في الإرث ستفقد من قاعدتها الانتخابية أعدادا غفيرة من المحافظين والمتدينين، حيث سيفهمون أنها مجرد كيان "منافق" يسترزق بالإسلام في السياسة، ليمروا إلى فسطاط السبسي الحداثي "الأصيل" الذي لا يشك في حداثته. فإذا لم يكن من الحداثة بد فمن الغباء أن تتحادث نهضويا، بل ينبغي أن يكون ذلك سبسيا. وإذا صوتت النهضة ضد القانون فسيغري بها السبسي الغرب والمؤسسات الدولية ويؤلبهم عليها ويفضح زيف مدنيتها وعدم تشبعها بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

السبسي كذلك يستلهم مآسي تنظيم الإخوة المسلمين في مصر مع التنظيم السري والاغتيالات التي نفذها خلال أيام التأسيس الأولى وكانت سببا في وصمه بتطرف العقيدة وعنف الأفكار، وينسج على منوالها معتبرا من مرحلة الرئيس مرسي الأخيرة ببلاد الكنانة والاتهامات التي وجهت إليه. إنه يضع النهضة في الزاوية الضيقة، ويمتحننها ويبلوها في وجودها، ويرفع مستوى الصراع عاليا وعاليا جدا. ولعله من مكر الدستور أن النهضة إن أدينت، فسيكون على يوسف الشاهد، رئيس الحكومة حليفها الحالي، أن يصدر قرار حلها، لينهار كل البناء على رأسها ورأسه وينتهي كل التدبير الذي بينهما.

هل تكون النهضة يا ترى قد أخطأت في تقدير ميزان القوى السياسي أم إن دهاء السبسي لا حدود له في التأقلم مع المستجدات والنوازل السياسية؟ هل هي فعلا تنظيم بارع متقن للتقية إلى هذا الحد وقد دقت الآن ساعة الحقيقة، حقيقة "تطرف" هذا التنظيم بما يمتلكه السبسي من معلومات يقول إنها "خطيرة وحاسمة"؟ هل يكون يوسف الشاهد قد باع الوهم للنهضة أم إن النهضة لم يغرر بها أحد وأنها هي من جلبت واصطنعت لنفسها عجل السامري؟

كل هذه الأسئلة تبقى ممكنة ومشروعة، والمشهد السياسي التونسي يحبل بمفاجآت قادمة، فكلما اقتربنا من موعد الاستحقاقات الرئاسية، أخرج الفرقاء المتصارعون المزيد من الأسلحة التي قد خبؤوها بعناية بين طيات معاطفهم لوقت الحاجة إليها؛ اذ لا تبدو لا الأرباح السياسية ولا المواقع الآن نهائية، ومن يبدو اليوم معزولا قد يصير غدا يتحكم بكل الأوراق، ومن تلوح له علامات وبشائر النصر قد تقلب له السياسة ظهر المجن، ويجد نفسه منبوذا مدحورا مطرودا من "جحيم الحكم بوصفه الآن بتونس مجرد عز في لظى. فخيوط السياسة التي تحرك اللعبة كثيرة ومتشابكة وبعضها إن لم أقل أغلبها يطول إلى خارج تونس.

حتى المنصف المرزوقي، الرئيس السابق زعيم حزب الحراك، عيناه مسمرتان تراقبان بتطلع الوضع، وقد أدلى بصنارته في البركة المتموجة للتحالفات لعله يصطاد سمكة الرئاسة من جديد. وها هو في آخر خرجة إعلامية له قد نزع عنه عباءة الحداثة ولبس بدلا عنها عباءة الأصالة، وشرب حليب السباع، وقال إن التحديث لا يفرض بالقوة، ولا حتى بالديمقراطية، وإنه يعلن نفسه منذ الأول خصما لقانون المساواة في الإرث ضدا على ما اعتبره انتهازية في إثارة قضايا المرأة، وكأنه يتموقع في موقع المبارز للسبسي في الانتخابات المقبلة، أو هو يعرض في الحقيقة نفسه على النهضة لتحويل خزانها الانتخابي إليه بدلا من الجميع؛ فالنهضة هي بالنسبة لكل الطامحين الإنكشارية الضرورية لانتزاع منصب رئيس الجمهورية بتونس.

إن الأدهى من كل هذا، وهو ما لا يضرب له حسابا لا المرزوقي ولا الغنوشي، هو أن تتكشف الأيام عن أن كل ما جرى هو فقط توزيع متقن للأدوار بين يوسف الشاهد والسبسي حيك بليل لنزع ورقة التوت عن النهضة وزعيمها وتبيان حربائيتها؛ فالحرب خدعة، أليس كذلك؟

ولكن هؤلاء اللاعبين جميعهم ينسون لاعبا آخر حاسما يتفرج تفرج المنكر لكل هذا؛ إنه الشعب التونسي الذي أصابه السأم من طول انتظاره لهذا الفرج الذي تعطل مجيئه كثيرا. التونسيون يعانون من احتراق الأسعار واحتراق الآمال وتحولها إلى سراب بسبب المناكفات في صفوف الطبقة السياسية. إنه اللاعب الذي يدعي الكل وصاله ولكنه لا يلمس منهم ذاك، والذي قد يقلب الطاولة على الجميع ويقرر أن يعيد إنتاج ثورته من جديد في إهاب جديد.

انها منعطفات ومنعرجات خطيرة تمر بها التجربة التونسية الغضة، وهي المنعطفات التي تسبق عادة الفوضى، بعضها ناتج عن الطمع الزائد والأنانية السياسية المفرطة أو عن فقدان الثقة والتوجس بين الفرقاء، وبعضها الآخر يصدر لها من الخارج فيكون رجع صدى لصراع المحاور. والخاسر الأكبر في كل هذا هو مستقبل تونس الذي يأبى أن يولد حتى الآن.

إن تونس تحتاج في هذه المنعطفات إلى كثير من التعقل والحكمة والرزانة، وإلى تغليب البعد الاستراتيجي في السياسة، ولكني أخشى أن تكون في حاجة أيضا إلى الحظ والبركة حتى تجتاز كل هذا المسار المتعثر... وقاها الله كل مكروه وحماها من الفتن.

خالد فتحي

*بروفيسور بكلية الطب بالرباط دكتور في العلوم السياسية